2016/12/25
جواد ديوب _ تشرين
يكاد المخرجُ باسل الخطيب أن يهدم في فيلمه الجديد «الأب»، الذي عرض مؤخراً في سينما سيتي برعاية وزارة الثقافة/المؤسسة العامة للسينما، كلَّ ما بناه باحترافية راقية في «مريم» و«الأم»، بل كأنه يعيد، وبإصرار غريب، أخطاءَ وعثرات فيلمه «سوريون» لجهة الضعف في السيناريو(د.وضاح الخطيب، باسل الخطيب) وبنية الفيلم الحوارية (الاستشارة الدرامية ديانا جبور) التي لا تخرج منها بجملتين تحملان غنىً وتكثيفاً درامياً ونفسياً، أو بقطبةٍ مخفيّة مدهشة من نسيج العمل ككل، أو بجديدٍ كشْفيٍّ مكمِّلٍ للصورة الجميلة التي يصنعها الخطيب بعناية واهتمام حقيقيين!.
إذ لا يعقل مثلاً أن يتفوق تقريرٌ تلفزيوني، مما نشاهده في يوميّاتنا، على فيلم سينمائي في القدرة على إدهاشنا وهزّنا من غفوتنا، مهما اختلفت شروط وأدوات النوعين، خاصة لجهة القصة التي يرويها، ومدى إقناعها لنا من حيث تتابع مجرياتها والتنقلات فيها بما يجعلنا نصدّق أنها حصلت فعلاً بكل مضامينها ومدلولاتها ورمزيتها.
فهل كان فيلم «الأب» وثيقة صمودٍ وبقاء لأسرةٍ من إحدى البلدات السوريّة، أم حكاية عن هروبها من وجه الوحش الداعشي القادم بمفترساتِه إلى تلك الضيعة؟، هل هو قصّة أبٍ (الفنان أيمن زيدان) يحاول إنقاذ عائلته باجتراح المعجزات، أم شريطٌ سينمائي يروي معاناة ذاك الأب وهو يتعرض للإهانات والتعذيب النفسي والتنكيل؟!، إذ كأنّ المخرج أضاعَ بوصلة ما يريد قوله والتركيز عليه، فرغم أن الفيلم يكاد يكون لحظة توتر وشدّ نفسي من البداية حتى النهاية – وهذا وحده خللٌ قاتلٌ- لكنه لم يقدّم مشهد الاغتصاب، مثلاً، باشتغال حقيقي على إظهار فجائعية تلك اللحظة في عيون الفتاة الضحية (خلود عيسى)، كما أنه لم يُسعفْنا ولو ببارقة أمل صغيرة محمولة على لحظات صمود إعجازي سمعنا عن مثله في قصصٍ واقعيّة كما في مشفى الكندي ومطار كويرس وسجن حلب، بل في كثير من القرى السورية التي تعيش على الخبز والماء، ولا تزال صامدة!.
ولماذا قدّم لنا المخرجُ كل أبطال الفيلم هكذا بلا حول ولا قوة، وحتى شخصيات عناصر الجيش العربي السوري لم يصنعوا فرقاً مهمّاً بينهم وبين الناس العاديين حولهم، بل بدوا أقل خبرة وهمّة وتضحية من شخصية الدكتور «عامر علي» الذي أوجده الخطيب ربما فقط ليستدرّ عطفنا على قصة الحب النابتة وسط الخراب بينه وبين الممرضة «رنا كرم» ابنة بطل الفيلم «الأب»، اللذين شاركا الممثلين الآخرين في أداءٍ جميل لكنه بقي محكوماً لشرط إخراجيّ حصَرَ الشخصيات في فعل الهروب من مكان لآخر، من دون أن يحمّلها أي مكوّنات أو مقولات ترفع من شأن أفعالها في عملية شدٍّ وجذب بين الممثل والدور، وبين الدور والمتلقّي، أو بإظهار تكاملٍ بين منطوق الشخصيات وأفعالها، ومن دون إتاحة مساحة ما للزوجة «روبين عيسى» كشخصية رئيسية، لتقول للأب في لحظةٍ ما قولاً يبقى عالقاً في روحه، وروحنا، ويجعلنا نفكّر فيما نحن فاعلون لأنفسنا وحياتنا!.
وعلى امتداد الفيلم، تبقى النساء عاجزاتٍ هاربات والأطفال خائفين، والرجال بعضهم غائب وبعضهم الآخر خائن، ومَنْ تبقى منهم أيضاً مغلوبٌ على أمره نتيجة حصار الإرهابيين الذين ألبسهم المخرج ثياباً سوداء في منتهى الترتيب والنظافة وبوجوهٍ جميلة وعيون كحيلة وذقون مشذّبة، بينما بعض أفراد الجيش العربي السوري، وفي أحسن مشاهدهم، بقوا مرابطين على دشمة أو في مغارة لا أكثر، وأما البطل «الأب» فينهار لفقده والديه (سعيد عبد السلام ووفاء العبد الله)، وتشريد بقية عائلته (حلا رجب)، لينتهي مأسوراً على يد المسلّحين!.
وهل يبقى أهل القرى هكذا، مهما اشتدت هجمات الإرهابيين عليهم، كأنهم «سيّاحٌ» في قراهم لا يعرفون بعضهم، ولا كيف يتحركون في أراضي الضيعة، ولا يتبادلون كلمة واحدة مع أولئك المحشورين معهم في «مشفى القرية»، وكأنهم مرسومون على «القدّ»، على المسطرة، فقط ليؤدّوا دوراً لقّنهم إياه المخرج؟!. وأيّ مشاعر وأفكار سنخرج بها مع كل تلك التفاصيل؟، يأسٌ، ألمٌ، فجيعةٌ، وإحساس بلا جدوى أو معنى أي فعل نقوم به، وأنه ليس هناك من فعل يمكن أن يردع أو يردّ أو يتغلّب على تلك المآسي، خاصة أن الخطاب الأخير الذي يوجهه الأب إلى الأطفال الذين احتجزهم الإرهابيون في القلعة بعد أن غسلوا أدمغتهم ليحوّلوهم إلى قتلة، ومن بينهم ابنته (الطفلة غادة قاروط)، بدا في صيغته التي قدمها المخرج لنا، يشبه درساً وطنياً قومياً في مجلس عزاء، بل بدا وكأنه وصية أب؛ لكنها وصية غير مسموعة، وفي غير مكانها!.
فهل أراد الخطيب أن يقدم لنا «الأب» في رمزيةٍ تشير إلى سلطة أبوية/رعائية لم تقدر على فعل شيء حقيقي، ولم تنشئ جيلاً من الأطفال قادراً على أن يكون بعيداً عن التحوّل إلى مكناتٍ للذبح وآلاتٍ للنحر على أيدي التكفيريين؟… لينهي فيلمه نهاية بلا أمل في خلاصٍ ما، أو في أن يكون «الأب» هو الفادي والمخلّص على درب جلجلة الآلام التي عاشتها نساؤُهُ، وقريته، وبلده!.
نعم.. قدّم لنا الخطيب، كعادته، لغة سينمائية بصرية عالية ومرهفة مع حركة كاميرا متجددة بالاستفادة من جمال المناظر الطبيعية، وتكوينات القلعة المعماريّة بأدراجها وأبراجها، ولحظات الشروق والغروب فوق تلك الجبال الشاسعة، في توظيفٍ محترفٍ للإضاءة والظلال وألوان السماء وحتى أبخرة الفجر البارد والغيوم المتشكّلة بسحرٍ موَّجَتْهُ ببراعة موسيقا «سمير كويفاتي» (مقتبِساً إياها من إدوارد غريغ النرويجي) في امتداداتٍ لأصوات كماناتٍ خلقت توتّراً وترقّباً لحزنٍ على وشك الانفجار، ومصحوبةً بنقرات بيانو تكرّرت كلازمةٍ حنونة من أول الفيلم لنهايته، بينما الكلارينيت يحكي لنا القصّة بتوجّع كذكرى أليمة… لكن للأسف بقيت «الحدوتة» تعاني ضعفاً في بنيتها الحكائية، ولم تستطع أن تكون حاملاً لتجديدات الصورة السينمائية، فأصبح لدينا فيلمٌ «يتعكّز» على الصورة ليقول لنا ما ليس لديه ليقوله، ومخرجٌ أهدى فيلمه لمدينة حَلَب رغم كل ذلك التيئيس والفجائع واللا أمل الذي تركنا غارقين فيه!.