2016/10/01
رامي كوسا - ليفانت نيوز
قبل ثلاثةِ أشهرٍ تقريباً حصلَ اجتماعٌ ضيّقٌ، في واحدٍ من مقاهي حيّ الغسّاني شرقيّ العاصمة دمشق، عرضت فيه الممثلة السورية ديمة قندلفت نصّاً مكوّناً من أربعِ صفحات على المُخرج عروة العربي. بُعيدَ جملةِ قراءاتٍ وأخذٍ وردّ قدّم العربي تصوّراً إخراجياً مبدئيّاً شرح من خلاله الآلية الّتي يُمكن أن يعتمدها لضبط حركة لاعبين مكوّنين من مُنشدي جوقة الفرح، الّذين يزيد عددهم عن مائة شابٍّ وشابّة، مُضافاً إليهم فريقٌ من الراقصين والممثلين.
بَعد شهرين من البروفات، قدّمَ فريق العمل عرضاً وَصفه أصحابه بأنّه “مسرحيّ موسيقي”. دار أوبرا دمشق غصّت بجمهورٍ ملأ كلّ كرسيّ شاغر على امتدادِ ثلاثةِ أيّام.
عن النّصّ، خطابه وبنيته
لا يسعنا أن نُحاكم “هنا هنا هنا”، الّذي كتبه الأب الياس زحلاوي عام 1993، كما نحاكم نصّاً مسرحيّاً تقليدياً. الورق هنا شعريّ للغاية، قوامه ثلاثة عشر مقطعاً تحكي عن “الأرض” برمزيّتها الوطنية ومعناها التاريخيّ. في النّص سرديّات تناولت الغزوات الّتي تعرّضت لها “الأرض”، ومقاطعُ تتغنّى بارتباطِ هذي “الأرض” بالحضور الإلهي وبعضِ الميثيولوجيا، وأجزاءٌ تتحدّث عن الحرفِ، بكلّ دلالاته، وعن ولادته الأمّ “هنا”.
حكائيّاً، يروي العَمل قصّة طفلةٍ هاجر ذووها إلى بلادِ ما خلف المحيط، ولم تُمنح، بسبب صغر سنّها، فرصةً لرفضِ فعلِ السّفر أو التمنّع عنه، فوجدت نفسها مُكرهة على الحياةِ في أرضٍ قال عنها النّص إنّ جميع المُهاجرين إليها لا صديق ولا مُحبّ ولا جار لهم فيها إلّا الدولار!.
واستناداً إلى جملةِ مبرّراتٍ تتعلّق بالأصل وفعل الانتماء، قرّرت هذي الطفلة، بعد أن كبرت، أن تعودَ إلى أرضها الأمّ لتتوحّد معها وتشاركها الهمّ وتقاسمها المصير.
إدارةُ خشبةٍ ممتازة، واستسلامٌ للحلول البصريّة الأولى
أثبت عروة العربي، من خلال تجاربه السّابقة كلّها، أنّه يُعنى بشغل الممثلِ أوّلاً، فالفذلكة البصرية توشك أن تكون غائبةً عن عروضه الّتي لا تنضوي على مبالغاتٍ سمعية بصرية.
في “هنا هنا هنا” لم يكن الممثّلون مُطالبين بلعبِ شخصياتٍ ذاتِ عوالم واضحة، وما قدّموه على الخشبة يصحّ أن يُسمّى أداءً عوضاً عن تمثيل، كما أنّ العمل يصحّ أن يوصف بأنّه “مسرحيّ غنائيّ” عوضاً عن “مسرحيّ موسيقيّ”.
حاول العربي أن يَشدّ إيقاع العرضِ، شبهِ الخالي من الدراما، عن طريقِ جملةِ لوحاتٍ راقصةٍ تُشكّل وسيلةً سردٍ مُضافة للنّص وما تخلّله من أغنيات، لكنّه استسلم للخيالِ الأوّل، حيث قدّم، على سبيل المثال لا الحصر، تشكيلاً يجمع الصليب والهلال كدلالةٍ على “التآخي الديني”. هذا المقترح، كما كلّ المقترحات البصريّة، بدا مباشراً وفقيراً بكلّ ما هو مختلفٌ عن السّائد. هذه المباشرة قد تكونُ مقصودةً بهدفِ حقنِ الفكرة وإيصالها لشرائح الجمهورِ كلّها، لكنّها تبقى، استناداً لعمومِ علومِ الدراما، واحداً من أضعفِ طرائق إيصالِ الفكرة وتمرير الرسائل.
العرضُ كان مضبوطاً حركياً بصورةٍ خلّصته من الفوضى الّتي يُمكن أن تنشأ عن سوءِ توظيف الحشد البشريّ الواقف على الخشبة. في المحصلة، نستطيع القول إنّنا شاهدنا عملاً مضبوطاً لا جديد فيه.
عن الممثلين وأخلاقيّة المشاركة
لظروفٍ عدّة، تتعلّق بالأجور الزهيدة الّتي تُدفع للممثل المسرحيّ وبطبيعة العمل في هذا الصنف الفنيّ، حيث يستهلك العرضُ الواحد من الممثل قرابة ثلاثة أشهرٍ بين بروفات وعروض على الخشبة، نرى أغلبَ نجومِ الدراما التلفزيونية يهجرون العمل المسرحيّ إلى غير رجعة.
في “هنا هنا هنا”، منحت ديمة قندلفت العرض لوناً مُضافاً. أدّت الممثلة الثلاثينية ما طُلب منها كما يجب. كانت حاضرة الأدوات على مستوى الجسد والصّوت والإحساس. تنقّلت على الخشبة برشاقةٍ الخرّيجات الجُدد.
حين يكونُ حضور “النجم” في العمل طوعيّاً، فغالباً ما يُصار إلى صرفِ هذه المُشاركة بإطراءٍ مبالغٍ فيه على بروشّور المسرحية. في “هنا هنا هنا”، جاء اسمُ ديمة قندلفت مجرّداً من الألقاب، فلم تُقدّم على أنّها “نجمة” ولَم تحظَ بشكرٍ خاص، بل عُرّف عنها بصفتها ممثّلةً محترفة وواحدةً من مُنشدات جوقة الفرح.
كفاح الخوص، يزن الخليل، حلا رجب، وروبين عيسى. ممثلون محترفون شاركوا في العرضِ تلبيةً لدعوة مخرج العمل. ما قدّموه على الخشبة كان يُمكن أن ينوبَ عنهم فيه مؤدّون مُدرّبون. مُشاركتهم في هذا العمل حملت قيمةً أخلاقية قبل أن تكون فنيّة. بروشّور العرض لم يحتفِ بالممثّلين الأربعة كما يجب، حيث ذُكرت أسماؤهم في حيّزٍ ضيّق ودونَ تعريفاتٍ لائقة. قدّم عروة العربي، عبر صفحته على فيسبوك، اعتذاراً للممثّلين الأربعة، وعبّر عن عدمِ رضاه عن الطريقة الّتي دُوّنت فيها أسماؤهم على البروشّور. مزاجُ الودّ هذا كان حاضراً على الخشبة في عرضٍ يُحسب له أنّه قدّم خطابَ محبّةٍ ورسالة سلام.