2016/02/22
السفير - سامر محمد اسماعيل
لا يغيب الطفل عن المأساة الدائرة في بلاده؛ يصمت ويحاول أن يفهم ما فعله الكبار بعالمه الشخصي قبل أن تنداح شلالات الدم في مدرسته وبيته وحديقته ومطارح لعِبه الحبيبة؛ لكنه حين يتكلم يصرخ في وجه القتلة؛ معلناً كذب الكبار عليه؛ وعدم ثقته بهم وبوعودهم؛ فالطفل يريد الحياة كاملة، يريد أمه أن تتعافى من إصابتها بقذيفة أقعدتها إلى الأبد على كرسي مدولب، وأباه حيّاً يرزق، ومدرسته ورفاقه الذين قضوا بانفجار سيارةٍ مفخخة أحياء يلعبون معه في باحة الدرس.
هكذا تطلب «ياسمين» من الصوت الذي يسألها عن سبب صمتها؛ وهي تزور مدرستها المدمّرة في بلدة (داريا - جنوب غرب دمشق) متفقدةً أشلاء المكان ورسومات رفاقها وقد سال الدم على علب تلوينهم المائية.
تدير الطفلة ظهرها للكاميرا فتبدو نسخةً من «حنظلة» ناجي العلي؛ ومثلها يفعل أطفالٌ آخرون رفضوا التحدث عن مأساتهم في الفيلم الوثائقي «ياسمين - إنتاج صورة الحياة» لمخرجه (المهند كلثوم) الذي تعاون مع الكاتب منعم السعيدي، في السيناريو لهذا الشريط الذي يمتدّ على مساحة 26 دقيقة. الزمن الذي حاول من خلاله المخرج السوري أن يوجّه أسئلة بسيطة لعيّنة من أطفال سوريين أفقدتهم الحرب ذويهم أو تعرّضوا لإصابات أفقدت بعضاً منهم أطرافهم، أو أصابت بعضهم الآخر بالعمى أو الشلل نتيجة قذيفة أو عبوة ناسفة.
لا يدخل «ياسمين» في إطار أفلام البروباغاندا؛ لكنه يشير بصراحة نحو الإرهاب الأسود وما فعله من تجنيد للأطفال وسوقهم إلى معسكرات التدريب على السلاح؛ وتلقينهم ثقافة التطرف وتكفير الآخر ومناهج «تطبيق الشريعة» في الأماكن التي تخضع لسيطرة «داعش» وأخواتها؛ ناهيك عن الضريبة الباهظة التي دفعها الطفل السوري على مدى خمس سنوات من الحرب؛ فاقداً فيها أي شعور بالأمان والاستقرار؛ حيث يعرض «ياسمين» للمشهد الدموي؛ منتصراً لرغبات الأطفال وخياراتهم؛ لاسيما عندما يقومون بدفن ألعابهم من (بنادق وطيارات وسكاكين) بلاستيكية في حفرة كبيرة، مهيلين عليها التراب والياسمين؛ أو يشرعون بتغطية شاشة التلفاز الذي يبث نشرات أخبار عن الحرب بصور عائلاتهم أيام السلم.
تكتب الكاميرا سيناريو موازٍياً للفيلم بمرافقة موسيقية لافتة كتبها الموسيقار «سعد الحسيني»؛ تنقذه من الملحمية والخطاب؛ مسندةً أدوار البطولة لأطفال يبحثون عن عالمهم المتخيل والفريد؛ بعيداً عن مدافع (الدوشكا) والدبابات والصواريخ المضادة للدروع؛ تاركةً للجندي مهمة إعادة المياه لمجاريها؛ عبر مشهد المقاتل الذي يحفر بيده قناةً في التراب للمياه العذبة لتسقي شجرة ياسمين صمدت، رغم أنف المعارك ووحشيتها.
الفيلم الذي سيعرض جماهيرياً في (24/ شباط الجاري بدار الأوبرا السورية) كان قد قدّم مؤخراً عرضه الأول في مدارس (بنات الشهداء) بمناسبة اليوم العالمي للطفل؛ وعن (ياسمين) تحدّث مخرجه المهند كلثوم لـ «السفير»: «لا يمكن اليوم أن ندّعي الوثيقة عن حرب شرّدت وأودت بحياة آلاف الأسر السورية، كل ما يمكنا فعله هو تسجيل احتجاج من أطفال سوريين يرفضون ثقافة الموت؛ ولهذا أرى من الأهمية بمكان أن يشاهد العالم مرافعات الطفل السوري؛ بعيداً عن كاميرات حاولت استثماره سياسياً تحت إنشاءات إنسانية رخيصة».
أجل نريد أن يسمع العالم كلمة أطفالنا من على متن المركب السوري الذي يريد البعض إغراقه للتباكي عليه - يضيف كلثوم: «لهذا لم أتدخل أو أقحم حرفيتي الإخراجية على الفيلم؛ فقط أردتُ أن أصغي لشتائم هؤلاء الصغار وهم يكيلونها لنا نحن الكبار الذين خربنا لهم أجـــمل مراحل حياتهم».