2015/12/05
السفير - سامر محمد اسماعيل
اعتذر المخرج أسامة غنم عن تقديم مسرحيته «زجاج» (مسرح فواز الساجر-29 تشرين الثاني- 3 كانون الأول) في اليوم الأول من العرض؛ بعد خروج المحوّلة الرئيسية لكهرباء المعهد العالي للفنون من الخدمة، وذلك بسبب «قذيفة هاون» أصابت المسرح هذه المرة؛ تاركةً الوعد قائم لجمهور أتى في اليوم التالي أكثر إصراراً على مساندة فريق العمل الذي اقتبسه «غنم» عن نص «مجموعة الحيوانات الزجاجية» لكاتبها «تينيسي وليامز» (1911- 1983)؛ محيلاً هذه المسرحية إلى عرضٍ سوري بامتياز.
مهارة عالية سجلها «مختبر دمشق المسرحي» الذي يشرف عليه غنم، بنفسه منذ العام الأول للحرب؛ منهياً بتجربته الجديدة جدلية النص والعرض؛ لصالح فن الأداء وقدرة الممثل على اكتشاف نفسه من جديد على الخشبة؛ بعيداً عن عبودية هذا الممثل لخطة إخراجية صارمة، تعتبر الأدبي مادةً درامية بحتة؛ لا يجوز «درمتتها» إلا بما تمليه المؤشرات والإحالات النصية للكاتب؛ بل عبر الممثل الشريك والمنغمس حتى النهاية في اللعبة المسرحية.
من هنا عرف أسامة غنم أن رائعة «وليامز» يمكن لها أن تعود للتوهج مجدداً في ظل ما تشهده بلاده من موجات دمار وقتل وتشريد؛ والأهم من ذلك هو النفاذ عبر (حيوانات) الكاتب الأمريكي إلى خلل رئيسي في بنية المجتمع السوري، وما أصابها من تجريفٍ قسري بعد فقدانها المتواصل لحضور الطبقة الوسطى في الحياة العامة للبلاد.
هكذا لا تقف اللغة في عرض الطريق؛ بل ينتشلها مخرج «زجاج» من قوالبها النحوية الخرساء في النسخة الأمريكية لصاحب (عربة اسمها الرغبة) نحو تقلّباتها الكلامية؛ وقدرة هذا الكلام على إنتاج الأفعال فوق الخشبة؛ عبر لعبة قام بأدائها كل من: (سوسن أبو عفار - نانسي الخوري- كنان حميدان- جابر جوخدار ) بحرفيةٍ عالية.
مكابدات
دراماتورجيا «يزن داهوك» عرفت بدورها أصول فن الإنشاء الدرامي؛ منذ الملامسة الأولى التي سجلها «يوسف عبد لكي» على بروشور العرض؛ رامياً نرده لجمهور دمشق 2015 ببراعة لم تقل عن عناصر هذه التجربة التي أسقطت زمن «الكساد الكبير» في أمريكا على الواقع السوري؛ مستفيدةً من تعقيدات المرحلة التي تمر بها البلاد؛ ف»كل شيء يحدث أمامك؛ يمكن أن يتحول إلى مشهد بمجرد عدم مشاركتك فيه».
المسرح هنا دخل في هذه اللعبة؛ فحاول تقديم الفرجة على أنها نوع من تقليد الحياة؛ يبدو ذلك من خلال زمن العرض الذي امتد لثلاث ساعات ونصف؛ مقتفياً حذافير النص الأصلي؛ دون الخضوع بالمجمل لشعرية شخصياته من خلال عمل الذاكرة والموسيقى والأضواء الخافتة؛ بل بالتأكيد على أن الواقع له مستويات متعددة من القراءة. بدا ذلك واضحاً في معالجة شخصيتي « لورا - ديمة» وشخصية « توم- يوسف» الشقيقان المتيّمان؛ والخارجان لتوّهما من تأثيرات رواية (الصخب والعنف) لوليم فوكنر؛ وحدود العلاقات الأسرية التي تنزلق في حدودها العاطفية نحو ذلك العشق الممنوع في النصوص الروحية واللوائح الاجتماعية الصارمة.
فهم عميق ومؤثر تسوقه النسخة السورية (إنتاج -مواطنون فنانون- آفاق) من نص «الحيوانات الزجاجية» مطوعةً مفردات محلية ومفارقات نفسية أليمة لصالح بناء الشخصيات من جديد؛ انتزاعها من أربعينيات القرن الفائت؛ لزرعها في صراع مرير بين تفاهاتها اليومية وأحلامها المهدورة؛ حيث تصير هذه الشخصيات المتورّمة بثراء عالمها الداخلي؛ نسخةً عن عائلة سورية حزينة؛ عائلة أرادها مخرج العرض صورة عن بلادٍ بأكملها؛ فلم يكن من السهولة بمكان وبعد سبعة أشهر من البروفات المستمرة، الوصول إلى تلك المكابدات الدفينة التي قدّمها «زجاج» بحيوية عالية ورغبة وقلق شديدين لمقاربة الحطام الاجتماعي؛ دافعاً بشخصياته الأربعة إلى أمكنة خطيرة من الذاكرة الجماعية.
هذا السجن النفسي الهائل والحصار المستمر بين حدود اجتماعية وسياسية؛ نقلته الشخصيات عبر حساسية مغايرة للكوميديا الساخرة، والتي غالباً ما كانت تنفلت نحو المرارة والهجاء لمجتمع هدر أعمار أفراده أمام مسلسلات التلفزيون؛ لإنسان تم اعتقاله في بيته قبالة هراء نجوم الدراما التلفزيونية الذين وعدوا جمهورهم بالإياب إلى أرض الوطن على لسان مسلسلهم السوري الطويل: «سنعود بعد قليل».
استفزازات متنوعة يسوقها عرض «زجاج» منتقلاً برشاقة بين مناظره السبعة في المسرحية الأصلية، لكنه لا ينسى أن الواقعية كأسلوبٍ فني لا تعني شيئاً حين لا تنبش بطون مجتمعاتها؛ و تشخّص أمراضها المستشرية والمخبأة جيداً وراء جدران منازلها وثيابها الفلكلورية القديمة. وقتها فقط يصبح التلفزيون بكل سطوته؛ مجرد قطعة ديكور لا معنى لها في عرضٍ مسرحي حار ولاذع.