2015/09/09
السفير - سامر محمد اسماعيل
الحرب بين مَن ومَن؟ يسأل أحد الممثلين في عرض «مدينة في ثلاثة فصول» (*) فيجيب آخر: «الحرب بين (نا) و(نحن) وليست بيننا وبين إسرائيل، نحن يقتلنا و(نا) يقتلُ نحنُ». استعارة أرادها المخرج عروة العربي عن نص «احتفال ليلي خاص في دريسدن» للكاتب مصطفى الحلاج، حيث قام كفاح الخوص باقتباس المسرحية التي كتبها المسرحي السوري الراحل العام 1970، مديناً فيها سياسة إسرائيل عبر استحضاره لجرائم اليمين الألماني المتطرف المتمثل بالحركة النازية التي دمّرت أوروبا وقتلت عشرات ملايين الأوروبيين؛ فكان أن دفع عاقبتها سكان مدينة (دريسدن) حين أبادتها طائرات الحلفاء العام 1945 بملايين الأطنان من القنابل؛ حاصدةً أرواح الآلاف من أهل المدينة الألمانية؛ في كارثة توصف بأنها تفوق إلقاء القنبلة الذرية على هيروشيما.
سوف لن تحضر هنا وصايا «غوبلز» وزير الدعاية الحربية في حكومة هتلر، بقدر ما سنشهد سجالات لها إسقاطاتها على الحرب السورية؛ فعبر قصة النص الأصلي عن مجموعة أشخاص يلوذون بقبو أحد (البارات) من قنابل طائرات الحلفاء؛ سوف يدير كل من مخرج العرض ومقتبسه أحداثاً متتالية لموتٍ يدرك الجميع: «بائعة الهوى، صاحب الحانة، تاجر الحرب وابنته التي تعرّضت للاغتصاب على يد مختطفيها؛ حيث يحضر واحدٌ منهما متنكراً بزي ضابط في الجيش؛ جنرال متقاعد، عشيقان، بالإضافة لشاب مذعور وعازفة تشيللو».
اللغة والممثل
شخصيات تبدو في الاقتباس الجديد على درجة واحدة من الأداء في خوفها وجزعها وعدميتها، فالعدو هنا مجهول لجهة التورية التي أرادها كل من مخرج العرض ومعدّه هرباً من الرقابة، ففي حين يدلل النص الأصلي (للحلاج) على جرائم إسرائيل كنازية جديدة؛ مناقشاً حالة طبقة العمال في ألمانيا آنذاك؛ ونهب حقوق هؤلاء على حساب أوهام النازية التي كرّست الطبقية بين أبناء البلد الواحد، لن نعثر في اقتباس «الخوص» ما يدلل على جهةٍ معادلة لذلك سوى في «السلطة»، حيث يقول الخوص في العرض الذي أنتجته (وزارة الثقافة - مديرية المسارح والموسيقى) ولعب فيه دوراً رئيساً: «أنقذوا الحجر وتركوا البشر» كناية عن الحدث السوري والمصائر المجهولة لآلاف من السوريين الذين ظلوا في المدن المحاصرة تحت رحمة ما يُسمّى (تنظيم الدولة الإسلامية – داعش) وشقيقاتها من التنظيمات المتطرفة.
العرض الذي حافظ في وصفته الجديدة على الأسماء الأجنبية للشخصيات، مبقياً على العربية الفصحى كلغة لشخصياته؛ خسر بذلك مستوى جوهري من الصراع الذي كان من الممكن أن تعكسه اللهجات؛ فيما لو قدِّم بالعامية الدارجة؛ وتباين نبرات أصحابها لجهة صراع (الأخوة كارامازوف) في نسختها السورية؛ إذ لم يراعِ «مدينة في ثلاثة فصول» الفارق الجوهري بين اللغة والكلام، فكانت المسافة بعيدة بين النص كأدب والعرض كبنية حركية ومشهدية تتطلّب إبعاد «اللغة الجاثمة ككراسي في عرض الطريق». فاللغة هي من تكلّمت في العرض لا الممثل.
مفارقة عكستها مصائر شخصيات تتكلم لغة (قريش) لجمهور دمشق الحرب - 2015؛ ناسيةً أن الجمهور في النهاية (كائن تاريخي وجغرافي)؛ وما يصحّ في النص المسرحي كأدب مقروء لا يمكن له أن يتحقق بصيغة (نص للخشبة)؛ فاللغة هنا ليست خياراً فنياً بقدر ما هي أداة للممثل، ومساحة من الكلام الذي يقترح لهذا الممثل/ الممثلة/ أفعالاً تجعله أكثر دينامية ومصداقية لمحاكاة ما يجري في بلاده؛ خالصةً إلى فهم درامي للصراع وآلياته.
غياب الكلام هنا لصالح اللغة الفصحى انعكس بدوره على غياب ميزانسين (رسم حركي) قادر على التخلق من صراع الشخصيات الذي غيّبه الاقتباس الجديد؛ وذلك لجهة ليّ عنقه كي يكون فعّالاً في مناقشة حال (أهل الكهف) السوري وقد انتصف عامه الخامس من الكابوس.
المقاربة والديكور
بالمقابل أتى العرض كمحاولة جريئة على مستوى المقاربة التي تخطت نص (الحلاج)، دامجةً إياه مع نص «الموت والعذراء» للتشيلي (آرييل درفمان)؛ مستغنيةً عن شخصيات على حساب أخرى، حاذفةً مونولوجات رائعة كُتِبتُ في النص الأصلي عن تغني شخصيات العرض بمدينة (دريسدن)؛ راثيةً متاحفها وأسواقها وحدائقها وساحاتها الكبرى.
من هنا كان لديكور الفنان (زهير العربي) حضوراً لافتاً من جهة الإيحاء بواقعية الحدث وطبيعيته؛ والخلاص إلى عمق متخيَّل في أرضية الخشبة، وفق مجاورة لونية لما يشبه ممرات من الضوء صمّمها الفنان (أدهم سفر) عبر إضاءة شاحبة بدرجات رمادية صوّبت منذ بداية العرض أشعتها نحو كراسي الصالة؛ ليبدو الجمهور كشخصية موازية لشخصيات العرض المحاصرة، فيما تماهى هذا المقترح مع مؤثرات مصممة الموسيقى وعازفة التشيللو «رغد قصار»؛ فما تركه الجمهور وراءه من أصوات قصف وانفجارات؛ صار جاثماً قبالته من جديد في مؤثرات صوت الطيران والقذائف على خشبة المسرح؛ لكن وفي كل حرب كان لا بد في النهاية من خروج (الجمهور) من هذا «القبو ـ المسرح» ففي الكوارث دائماً لا بد لأحد ما أن يبقى حــياً، على الأقل ليروي ما حدث.
تُعرض على مسرح الحمرا، دمشق، لغاية 17 أيلول الحالي