2015/07/13
سامر المصفي
يكاد يومٌ لا يمر من دون مقال او زاوية رأي حول مسلسل غداً نلتقي في إحدى الصحف أو مواقع التواصل الاجتماعي مع شبه إجماع على اعتباره الأفضل رمضانياً لهذا العام.
كما يكاد لا يخلو ذلك المقال أو تلك الزاوية ،من توصيف المسلسل على أنه يتحدث عن مأساة النزوح التي يتعرض لها السوريون منذ سنوات في حين أن العمل – في مستوىً آخر من القراءة – لا يتعرض لهذه المسألة فعلياً، وليست تلك مقولته.
كما وليس التقاء شخوص العمل في مدرسة للنازحين أكثر من بيئة للعمل وظرف مكاني يجمع خيوط الحكاية. ولو دارت الأحداث في ضواحي دمشق أو اي بلدة هامشية لما تغير شيء. إذ لو شاء المسلسل أن يكون عملاً يرصد حياة النازحين، ويسجّل معاناتهم، لكان لدى الكاتب والمخرج (إياد أبو الشامات ورامي حنا) مادة ثرية جداً، تكفي لعشرة مسلسلات معاً: نقص الطعام، المساعدات الدولية، الخيام والثلوج، غياب التعليم والطبابة، مريم التي أحرقت نفسها أمام مفوضية الأمم المتحدة، وملف هائل من القصص والحكايات والصور والفيديوهات عمرها أربع سنوات. إلا أنّ المسلسل بقي محاذياً لكل ذلك، مثلما كان محاذياً لما يحدث في سوريا الداخل: ثورة، حرب، تطرف، شبح التقسيم، الشهداء، المعتقلين …الخ.
وحسناً فعل، فبالنهاية ليس التوثيق هو غاية الفن، ولا نقل الواقع مهمته، والأحداث لا تؤخذ بحرفيتها، بل بدلالاتها الفنية، وهنا مكمن استثنائية العمل وسر الاحتفاء الواضح به “والمستحٓق” ويحسب له أنّه لم يستثمر بأوجاع السوريين، وآلامهم لاستدرار تعاطف مجاني.
العمل يبحث في علاقات البشر وارتدادات الراهن المعاش عليهم، ولكن كبشر أولاً. وليس كسوريين فقط. كبشر يشبهون غيرهم في الحب والرغبة والحلم. في الخيبة والانتظار والأمل. في التوق للانعتاق من ال (هُنا) نحو (هُناك) آخر، كما هو الحال في كل زمان، وكل مكان. عمل يرصد نوازع الإنسان الأولية ولكن برمزية جميلة وبأدوات فنية لائقة بعيدة عن ابتذال السوق الرمضانية، وخارج إطار دراما “البزنس” والمال.
غداً نلتقي عمل يترك الباب موارباً، لعدة مستويات من القراءة، قد تختلف من شخص لآخر، ففي قراءة شخصيات الشقيقين (جابر ومحمود) كمعارضٍ وموالٍ يجمعهما بيت واحد، الكثير من التبسيط ربما، فلا محمود يمثّل الثورة أو المعارضة، ولا الموالاة هي جابر، فيما لو نظرنا جيداً، وابتعدنا عن تلك الثنائية القديمة والمشروخة، وكأن السوريين نصفهم شياطين ونصفٌ نبتت له أجنحة فجأة بعد 2011.
المسألة أوسع من ذلك، فجابر ومحمود هما: نحن الذين افترقنا وتوسعت بيننا ضفتا النهر. نحن الذين نحمل الحب ذاته والهمّ ذاته والوجع ذاته والمرض ذاته (مرض السكري). و هما أيضاً كل واحد فينا منفرداً، بكامل تناقضاتنا ورغباتنا وتشظّينا وانكسارنا.
ربما لو جمع المشاهد الشخصيتين في واحد، ونظر إلى (وردة) لوجد نفسه أمام مرآة.
أما وردة، فيمكن لنا كمشاهدين – ويحقُّ لنا – أن نرى فيها سوريا ذاتها، سوريا الجميلة والحالمة، سوريا البكر و “الدَقّة قديمة” كعاشقة “بالأبيض والأسود”. سوريا الحبيبة المشتهاة ،التواقة والشغوفة بالحياة. لكنها تعمل في غسيل الأموات المهنة التي ورثتها عن أمّها. كأنما هو إرثُها وقدرها معاً أن تبقى تغسل موتاها. سوريا التي أوشكت أن تتزوج سائق عربة الموتى أبو رياض فأنقذتها قصيدة / حلم
غداً نلتقي – ومن دون إغفال دلالات هذا الإسم وإيحاءاته – عمل يحاكي العقل والروح معاً. ويجمع بين ما يجب ان يُجمع الفكرة والمتعة ولكن برمزية خفيّة، متقنة وغير متعالية، لا يؤستذ، ولا يحاكم ولا يقدم إجابات جاهزة، أو مقولات كبيرة بل يترك لنا حرية التصرف وترجمة الشاشة المعتمة الغامضة كخياراتنا ورؤيتنا ورأينا فيما يجري ويترك لنا أيضاً حرية تفكيك الشخصيات. بعدة قراءات مختلفة.
أم إيهاب مثلاً والتي قد تبدو زائدة عن الحاجة لكنها تكمل في الواقع جزءاً رئيسياً من المقولة. فهي الأم الغارقة في “كوما” من الذهول كما لو كان ضميراً جمعياً، يسمع ويرى لكنه عاجز عن فعل شيء أمام هول أن يقتل أبناؤها بعضهم.
كذلك لا يمكن إغفال ،الدور الجميل الذي يؤدّيه تيسير إدريس في شخصية أبو ليلى اليساري الفلسطيني الذي سرق نقود إبنه ليخسرها في لعبة قمار. لكأنما هو ذلك اليسار الفلسطيني الذي خسر نضاله وثورته في رهانات خاسرة على أنظمة هي أول من تخلت عنه بعد أن تاجرت به ورمته كغيره للجوء.
ذلك الرهان الذي أدى للقطيعة الكاملة مع أبناء 2011. ومع اليسار الوريث جيفارا الابن والذي بدوره يريد أن يركب البحر لكن ليس لتونس هذه المرة ولا لأثينا بل كلاجئ لأي مكان، وكجزء من تغريبة جماعية جديدة.
قد تكون الدبكة من حيث كونها نوستالجيا غنائية للحفاظ على الهوية من التلف ولاستعادة الجذور، قد تكون نبوءة لسكان المدرسة المستمعين داخل صفوفهم / غرفهم / كتلاميذ جدد في درس النزوح.
أبو ليلى شخصية متقنة الصنع وكاركتر معتنى جيداً بتفاصيله. طريقة اللبس، لون الثياب، صبغة الشعر والتسريحة، تسوّل سمّيعة لبطولات وعذابات مضت، نسخة حية ونابضة من يسار الثمانينات، تضيف للمسلسل لمعة خاصة ونكهة فريدة. لا يمكن تجاهلها.
وقد لا يكون جيفارا الإبن / الوريث بأحسن حال من والده، فبين استعادة فلسطين بالدبكة، و “خدني ع بلادي إمّ الزيتونا..” وبين نشاز صوته في فرقة المنشدين الإسلامية، لا تبدو الخيارات أقل ضبابية ولا الرهانات أقل فداحة، ويبقى نهر الغربة متدفقاً كما كان دائماّ.
غداً نلتقي عملٌ ينتمي لنا، يشبهنا ويشبه حزننا ويجعلنا نريد – حقاً – أن نلتقي… غداً