2014/05/24
ممدوح حمادة – السفير
يستكمل الكاتب السوري ممدوح حمادة تجربة "ضيعة ضايعة" الناجحة، في مجموعة قصص قصيرة بعنوان "أم الطنافس" صدرت أخيراً عن "دار أبعاد" في دمشق. صاحب "خربة"، خصّ "السفير" بقصّة من تلك القصص، ننشرها هنا.
***
عبود مهنا سلطان يعتبر من الناس الميسورين بمعايير القرية، ولذلك فعندما شاهد على حبل الغسيل، كلسون الخام الألماني الذي أصبح ضيّقاً عليه بعض الشيء، فكّر بالتصدّق به على نجم القاضي. أمّا نجم القاضي ورغم أنّه محتاج ويستحق الصدقة فعلاً، فإنّ شيئاً وحيداً فقط كان لا يحتاج إليه، هو الكلاسين، فقد كان عنده وفرة منها، لأنّ كل أكياس الطحين كانت تتحوّل على يدي زوجته إلى كلاسين، ولكنّه خجلاً قبل الصدقة التي جاء بها عبود مهنا سلطان في كيس لفّه وأعاده إلى جيبه بعد أن أخرج منه الكلسون وقدّمه لنجم، ونوّه له بحركة تدلّ على قيمة الهديّة:
- خام ألماني، حتى لو قمت بحفه بالحجر فلن يهترئ.
- كثر الله خيرك.
أجابه نجم دون اكتراث ووضع الكلسون جانباً، وهذه اللحظة بالذات كانت بداية لمأساة نجم التي ستسجّل في تاريخ القرية، ففي اليوم التالي تحديداً شاهد عبود مهنا سلطان نجم القاضي في الساحة، وقبل أن يقول له صباح الخير بادره على مسمع الجميع سائلاً:
- كيف الكلسون.. أرجو ألاّ يكون ضيّقاً؟
- لا.. شكراً لك.. كل شيء على ما يرام.
أجاب نجم القاضي مزدرداً لعابه إحراجاً أمام مَن لفت انتباههم سؤال عبود، وتنفّس الصعداء عندما عاد كلّ إلى أشغاله، ولكن عبود عاجله بالسؤال الثاني:
- هل دكّة الكلسون رخوة.. أم لا زالت متينة؟ إذا كنت تشعر بها رخوة فعندي ذراع ونصف من المطاط أعطيك إياه تدكك به الكلسون.
- لا الحمدلله، ليست رخوة.. متينة.. متينة جداً.
وازدرد لعابة إحراجاً مرّة أخرى بعد أن ازداد عدد المهتمّين، عندما وصل الحديث إلى دكة الكلسون.
- ممتاز .. ممتاز ـ قال عبود ثم تابع ـ لم أنم طوال الليل بسبب التفكير، خشيت أن تكون الدكة قد ارتخت فقلت لنفسي سيعتب علينا نجم ويقول .. آها تحسن علينا عبود بكلسون دكته رخوة.
شعر نجم وكأنّه في دوّامة من الرمال المتحركة، فتمنّى أن تبلعه وتنهي معاناته، أو أن تهبّ عاصفة وتكنس وجه الأرض من آخر حبة رمل، واكتفى بالجواب مجاملة:
- كثر الله خيرك.. لم تقصّر أبداً.
- ما الذي تقوله يا رجل لم أقم بأكثر مما يمليه الواجب.. إنه مجرّد كلسون، مَن يسمعك يظنّ أني أهديتك مرسيدس.
لم يردّ نجم راجياً أن يقطع حبل الحديث بصمته، وكان مصيباً فيما فعل، فقد صافحه عبود مهنا سلطان وتابع طريقه.
عاد نجم القاضي إلى بيته معكر المزاج واستمرّ معه ذلك حتى غفا ليلاً بعد صراع طويل مع الأرق، حيث راودته أحلام ورديّة جعلته ينسى عبود مهنا سلطان وكلسونه الخام الألماني، إلا أن سيرة الكلسون الخام الألماني لم تقفل هنا، ففي اليوم التالي عندما صادفه عبود في الساحة صاح به، وهو يحثّ الخطى نحوه:
- طمئنّي نجم.. كيف الكلسون؟
- الكلسون بألف خير والحمد لله.
أجاب نجم ممتعضاً بعض الشيء، ولكن عبود لم يلحظ ذلك في نبرته، بل شاهد فيها آيات الشكر على هذا الكلسون الذي اعتقد أنّه الحدث الأهم في حياة نجم، ومدّ يده إلى جيب الجاكيت وأخرج من هناك شيئاً ما، مدّه إلى نجم قائلاً:
- امسك، لقد أحضرت لك "المغيّطة"، من أجل دكة الكلسون خشية أن ترتخي أو تنقطع وأنا مسافر.
وضع نجم المطاطة في جيبه ولم يشكره حتى، خشية أن يطوّر الحديث، خاصة أنّه كان يشعر أن الجميع يشاهدون كلسونه وهو يتحدّث مع عبود، غير أنّ عبود فاجأه بسؤال لم يكن في الحسبان:
- هل تعرف كيف تدكك المطاطة في دكّة الكلسون أم أشرح لك؟
تلوّى نجم وتمنّى لو كان في يده سلاحاً نارياً ما لكي يفرغ كلّ طلقاته في قلب عبود، ولكنّه بالطبع أبقى على هذه الأمنية حبيسة رأسه وأجاب:
- يا رجل.. تسأل وكأنّني سأخترع قنبلة ذرية، إنّها مجرد مطاطة.
- هه.. قنبلة ذرية.. تسخر؟.. الألمان كلّ صناعاتهم معقّدة ولها طريقة خاصة للتعامل معها، حتى الكلاسين، يا سيدي هل تعلم أن تدكيك كلسون ألماني أصعب من اختراع قنبلة ذرية يابانية.
ثم نظر إلى حزام بنطال نجم وقال له:
- انزل البنطال.
وهنا لم يجد نجم بدّاً من التذمّر، وقال:
- لا توجد مشكلة يا أخي.. إذا قطعت دكة الكلسون أو ارتخت ارفع الكلسون، لماذا خلق الله للإنسان يدين؟.. لكي يرفع كلسونه إذا ارتخت الدكة.
لاحظ عبود الخجل في ملامح نجم فسخر منه:
- احمرَّ وازرقَّ واخضرَّ لأننا قلنا له أنزل البنطال.. ما بك مثل النساء، قلنا لك أنزل البنطال ولم نقل لك اخلع، أنت رجل يا أخي.. رجل، لا داعي للخجل لن تخرب الدنيا إذا وقعت عين أحدهم على دكة كلسونك.
لم يجد نجم بداً من تلبية طلب عبود، وندم لأنّه اعترض في البداية، فقد ازداد عدد المراقبين ثلاثة أو أربعة أشخاص بسبب ذلك، فأنزل البنطال وسرعان ما أمسك عبود بالدكة وأخذ يشرح له:
- هنا يوجد فتحة، تعلّق المطاطة بدبوس وتبدأ بتدكيكها حتى تخرج من الطرف المقابل فتربطها وانتهى الأمر.. ارفع البنطال.
رفع نجم البنطال فطلب منه عبود:
- انظر إلى الأعلى.
نظر نجم إلى الأعلى ظناً منه أن عبود يريده أن يرى شيئاً هناك، ولكن عبود قال له بعد أن نظر إلى فوق:
- أنظر إلى الأسفل.
نظر نجم إلى الأسفل ظانّاً الظنّ نفسه، ولكنه لم ير شيئاً، فألقى نظرة استفسار على عبود الذي كان ينتظر هذه النظرة فعاجله:
- هل أطبقت السماء على الأرض لأنّك أنزلت البنطال؟ لم تطبق، لا تزال في الأعلى والأرض مكانها في الأسفل، والحياة مستمرّة كما ترى.
في تلك الليلة لم يشاهد نجم أحلاماً وردية. في تلك الليلة عاش كابوساً ثقيلاً فيه الكثير من الكلاسين التي كانت تحاصره مكشّرة عن أنيابها، وأكثر ما بعث الرعب في نفسه بينها ذلك الكلسون الضخم الذي كان يحلق على ارتفاع منخفض ويصليه بصواريخ جو أرض، ولأن كل شيء ميسّر في المنام فقد وجد نجم زوجته تمد له مدفعاً مضاداً للطائرات أخذه منها على عجل وسدّد على كلسون (الإف 16) كما سمّاه لاحقاً من باب الدعابة، ولكنّ المدفع كما في كلّ الكوابيس أصيب باستعصاء ولم يعمل، بينما أطلق الكلسون على نجم صاروخاً لا يمكن القول إنّه مزّقه إلى أشلاء، فقد نثره نثراً وجعله يتطاير في الهواء على شكل رذاذ.
استيقظ نجم من الكابوس وتلمّس جنبات جسده، وعندما أدرك أنّه حيّ يُرزق مسح عرقه وشرب الماء ولم ينم بعد ذلك تلك الليلة.
في اليوم التالي، كما في الأيام التي سبقته، شاهد عبود مهنا سلطان نجم القاضي في الساحة التي تصبّ فيها دروب القرية كلّها، وكالعادة أيضاً سأله:
- كيف الكلسون؟
- بألف خير وفي غاية الشوق إليك.
ردّ نجم وفي نفسه رغبة بتوجيه لكمة إلى أسنان عبود الأماميّة، بحيث يشاهد بعدها الدم يشخب من لثته نوافير غزيرة تتحول إلى بحيرة تبتلع عبود وكلسونه الخام الألماني معاً، أمّا عبود الذي لاحظ تغيراً في نبرة نجم فقد ظنّ أن نجم يداعبه فتابع:
- هاهاها.. أنا لا أسألك عن الكلسون عبثاً، فقد تذكرت ليل أمس أنني لم أنبهك لكي لا تغسل الكلسون في غسالة، أغسله باليد، فهو يكش، وهذا هو العيب الوحيد فيه، مريح للجسم ناعم على الجلد، ولكنّه يكش، كلاسين الخام الصناعة المحلية لا تكش، ولكنها بالمقابل خشنة كالجنفيص عندما تلبسها تشعر بمحاشمك، عدم المؤاخذة، وكأنّها على قطعة برداخ.. ما العمل هكذا هي الدنيا، لكلّ شيء كما قال أبو العلاء، إذا ما تمّ نقصان.
- يا ابن الستين كلب، هل تظنني البس كلسونك الخام مرة وإلى الأبد؟ لقد غسلته عشرين مرة منذ أن ابتليت به.
هكذا كان نجم يتمنى أن يقول لعبود، ولكنّه لم يقله، بل قال له:
- الحمد لله ليس عندنا غسالة.
- ممتاز، ـ قال عبود وتابع ـ أيضاً أريد أن أنبّهك لعدم استعمال مساحيق الغسيل، لأنّ مساحيق الغسيل تتفاعل مع الخام ويبقى أثرها فيه مما قد يؤدي عدم المؤاخذة إلى حكة في المحاشم، وأنت تعرف كم يشعر المرء بحرج إن اضطر لحكّ محاشمه في الشارع أو في جلسة ما، سيلاحظ الناس ذلك ويعيبونه عليه.
- زوجتي لا تعرف غير صابون زهر الزيتون.
قال نجم محاولاً أن ينهي الموضوع.
- أفضل شيء، الصابون أفضل شيء.
ومد يده مصافحاً نجم الذي تنفس الصعداء ظنّاً منه أن المصافحة هي نقطة النهاية للحديث، كما هي العادة، ولكن عبود أعاد يده فجأة إلى جيبه قبل أن يجري المصافحة، قائلاً:
- لحظة، لحظة، جلبت لك الدبوس.
ثم مدّ له الدبوس وأردف:
- هؤلاء الألمان أولاد كلب، دقيقون على الشعرة، حتى في دكك الكلاسين، يا رجل.. يخترعون الكلسون وكأنّهم يخترعون ميغ سبعة عشر.. اجعل ذنب الدبوس إلى الأمام عندما تدكك المطاطة، ورأسه إلى الخلف، تحسباً فقد ينفتح فجأة ويصبح من الصعب دفعه.
- حاضر سيدي.
وجد نجم نفسه يقول لعبود الذي قال عدة كلمات أخرى لم يسمعها نجم، ثم انصرف.
ولم يتنفس نجم الصعداء في هذه المرة حتى شاهده يختفي خلف المنعطف.
لم يشاهد نجم كوابيس تلك الليلة لأنّه لم يغمض له جفن، ولكن رغبات كثيرة راودته كأحلام يقظة، فمرة دخل إلى الساحة ومعه رشاش دكتريوف وأفرغ شريطه كاملاً في جسد عبود مهنا سلطان، ومرّة شاهد نفسه يعلق الكلسون على حبل الغسيل ويرميه بسهم من قوس النشاب ويصيبه في منطقة المحاشم تماماً، ليسبّب له أكبر قدر من الألم، فقد بدأ يشعر أنّ روحاً شريرة تسكن كلسون الخام الألماني ذلك، وفي أحلام أخرى سكب على الكلسون بنزيناً وأحرقه، وفعل بالكلسون وبصاحبه الأساسي كل ما يمكن أن يفعله شخص حاقد ناقم بمن يرغب بالانتقام منه، غير أنه في اللحظات التي كان يثوب فيها إلى رشده، كان يفكر بما يتوجب عليه فعله لكي يتخلّص من مأساة الكلسون، فلم يعثر على طريقة تخلصه من هذا، واكتفى بالأمل أن يملّ عبود مهنا سلطان يوماً من السؤال عن الكلسون، وبذلك تكون مشكلته قد حلّت. ولكنّ ذلك لم يحصل، ففي كلّ يوم كان عبود إضافةً لسؤاله عن الكلسون ومديحه للمنتج الألماني، يقدّم له توجيهات جديدة فيما يخصّ التعامل مع الكلسون الخام الألماني.
وبما أن لكلّ وعاء طاقة على الاستيعاب، فإنّه لا بد لهذا الوعاء في نهاية المطاف من الانفجار، وهذا ما حدث مع نجم القاضي. ففي أحد الأيام وكانت الساحة مكتظة، وبعد أوّل سؤال من قبل عبود مهنا سلطان عن كلسون الخام، وجد نفسه بشكل آلي يخلع بنطاله ثمّ يخلع كلسون الخام ويناوله لعبود شاكراً إياه:
- أشكرك جزيل الشكر على كلسون الخام الألماني، ولكن خذه وخلّصني منه لأنني لا أجيد التعامل مع الصناعة الألمانية.
ثم التفت إلى الجمع الذي أخذ يحدق بعضه في مؤخرته العارية فاغراً فاه، وبعضه الآخر في مقدمته العارية فاغراً فاه أيضاً، وقال بصوت يتهيأ للسامع معه أن أفعى تخرج من صدره:
- يا جماعة لا تؤاخذوني.. أقسم لكم.. أن يكون الشخص عارياً خير له من أن يستر عورته بكلسون عبود مهنا سلطان، حتى ولو كان "بوبلين"، وليس خاماً ألمانياً فقط.