2014/05/06
ياسمين أبو فخر – تشرين
يعدّ النّتاج الفنّي الذي يتناول الأزمات الإنسانيّة في أوج معاناتها عاجزاً بشكلٍ عامّ عن مجاراةِ الوجعِ والألمِ اللذين مازالت تدور رحاهما ولاسيما أنّ جراح مكلومي تلك المعاناة لم تلتئم بعد وأعداد ضحاياها لم تزل في ازدياد.
إذ يقع هذا النّتاج عندها في تحديّات الظّرفيّة والآنيّة الّتي تؤطّره ضمن خطر المقارنة مع مجريات الهمّ العامّ، ويصبح العمل الفنّي عندها مهدّداً بأن يعد بسيطاً في تناوله لما يجري في حال لم يمتلك أدواته ومفرداته بشكلٍ مدروسٍ يوازن بين تحدّي طرح هذا الهمّ الإنسانيّ العام، وبين ذكاء عدم الوقوع في ادعاء المعرفّة الكليّة وخطر تعميم وجهة نظر ورؤية صاحب العمل الفنّي كخلاصة وموقف.
من هنا.. نجح العرض المسرحي «نبض»، في تحقيق تلك المعادلة من خلال تناوله للأزمة في سورية من زاوية معاناة إنسانيّة غير ظرفيّة تتجسّد في «تضحيات الأمّهات والمهن» مستخدماً تجليّات لهفتهنّ وحنانهنّ وخوفهنّ ورعبهنّ وعطائهنّ في واقع الأزمة، وما فرضه هذا الواقع عليهنّ من خسارات حين ربين وكبّرن ودلّلن وحلمن ومنّين أنفسهنّ باحتفالاتهنّ بأطفالهنّ الّذين صاروا في لمحة بصر وقوداً لحرب إخوة لم تكن في حسبانهنّ ولم تكن البيئة الاجتماعيّة السوريّة توحي أصلاً بأنّها قد تفرزها.
أتى العرض ذكيّاً في اختيار تلك الزاوية من الطرح والارتكاز عليها، إذ تناول سرديّة ثلاثيّة تدور بين أمّهات سوريّات في دمشق المدماة بصراعاتها، تجمعهنّ الأقدار في حديقة على سفح قاسيون اخترنها لكونها قريبة من برج الإرسال الّذي بات نبضهنّ الوحيد للتّواصل مع الزّوج أو الابن الذي جرفه الصّراع إلى ساحة الحرب والاشتباك، فبتن يلجأن إلى تلك الحديقة ويغرقهنّ الانتظار في تداعيات الحنين والذّكرى، ويهمن في خطوات تستجدي نبض التغطية كي يهدهدن الرّعب في قلوبهنّ الفزعة، لعلّ الخبر الّذي ذهب بأحبائهنّ، لا يأتي من دونهم!!.
وفي حين كان العرض موفقاً في اختيار تلك الزاوية لطرح الأزمة، فقد تعثّر في مواضع أخرى بطريقة الطّرح نفسها، إذ كان العرض عبارة عن حوارات مونودراميّة مباشرة وبسيطة في أبعادها، سردت للمتلقي قصّة كل شخصيّة بطريقة نجحت في استدرار دموع المتلقين أثناء العرض، لكنها لم تحم بعضهم من الإحساس بالإحباط حين أعادوا النّظر في القصص فاكتشفوا أن ما يسمعونه يوميّاً من المخزون الواقعي للسورييّن يعج بقصص عن الأمهات والشّهداء تفوق بألمها بساطة البناء الّذي بني لقصص الأمهات الثلاث، في الوقت الذي كان يفترض بالعرض أن يخفف من جرعة السّردية المكثّفة والمطوّلة، ليدخل أكثر في صلب تلك المعاناة عبر تقاطعات الحدث وليس فقط عبر تقاطعات الحزن المشترك.
كما لم يفلت العرض من مأزق الدلالات الدّينية والمناطقية والطبقيّة في الأسماء والبيئات التي اختار منها شخوصه، فجاءت تلك الإسقاطات الواضحة لتضيّق زاوية العرض بدلاً من أن توسّعها، في حين نجح- في مواضع أخرى- في تسليط الضوء على المجتمعات البسيطة التي تمّ النفاذ إليها من خلال أزماتها المعيشيّة والعمل على بث التحريض والشّحن الديني والطائفي فيها، لتحويلها لفئات مجنّدة تقف في وجه الجيش والتعايش المشترك وتصل في خرابها إلى حد استهداف الإخوة باسم الهداية والدعوة إلى الصّراط المستقيم، محاولاً أن يقول إن الأذى نال قلب كل أم بغض النّظر عن مكانها من الصّراع.
قُدِّمت تلك التركيبة بأداء مميز وقدير للممثلات (هناء نصّور- رنا جمّول- نسرين فندي)، من دون أن تخلو بعض التعبيرات الأدائية من المبالغة في بعض المواضع أو من الإطالة في مواضع أخرى.
أمّا عن أدوات العرض الفنيّة فقد كانت ذات حضور واضح بدءاً بموسيقا العرض (طاهر مامللي) والتي كانت موحية وعميقة بأبعادها حين حضرت، لكنّ أزمتها أنها حضرت بشكل جزئي غير كامل وغير مرافق للعرض في كامل مفاصله، وتعاملت مع المسرح بمنطق موسيقا الدراما التلفزيونية، ما سبب فراغاً في دراسة الفضاء المسرحي الطقسي موسيقيّاً والذي لا يكتفي بمقطوعات تفتتح العرض أو تتخلله أو تختتمه، بل يحتاج لما هو أبعد من ذلك من حضور مؤثرات الظرف العام لشرط العمل ودلالاته والتي غابت تماماً عن العرض.
أمّا على صعيد السينوغرافيا (أحمد روماني)، فقد تمثّلت السينوغرافيا بتشكيل غني ومكثّف يجسّد الحديقة ومقاعد الانتظار وجبل قاسيون في عمق الفضاء المسرحي الذي ينبض في قمته ضوء أحمر في أعلى برج الإرسال مرافقاً العرض في كل اختلاجاته، على الرغم من أن التّشكيل العام للسينوغرافيا عانى من التّناظر في تكوينه ومن الورديّة في مشهديّة الحديقة التي لم تنسجم مع صورة حديقة في زمن حرب ماعدا في اكسسوار الحقيبة التي كانت بيت الشخصيّة المهجرة النازحة ومستقرها ما خلق إحساساً بالشتات المرتبط بظرف الحدث، كما عانت سينوغرافيا العرض من الجمود من ناحية دراسة التشكيل الحركي (الميزانسيين)، الأمر الذي يعود في جانب كبير منه للرؤية الإخراجية في رسم الحركة على الخشبة وتوزع الممثلين بشكل قيّد التصميم السينوغرافي العام وحاصره.
أما تصميم إضاءة العرض (ريم محمد) فقد جارت العرض في تصاعده وتبدّلاته النفسيّة ودلالات نقلاته الزمنية، ولاحقت بؤر السّرد بطريقة مدروسة، وحافظت في تصميمها العام على حضور التشكيل السينوغرافي على الرغم من أنها في بعض المواضع كانت تتعثر بالفخ الوردي الجمالي ذاته الذي تعثّرت به سينوغرافيا العرض.
في الوقت الذي جاءت به العناصر السينوغرافيّة الباقيّة: تصميم الأزياء (هشام عرابي)، الماكياج (هناء برماوي)- الكوافير (سامي فريسان) لتنجح في إكمال المشهديّة البصريّة ودلالاتها بشكل ينسجم مع بناء الشخصيات ومع التشكيل الخطّي واللوني للسينوغرافيا.
ثلاث أمّهات معلّقات على حواف النّبض: مابين الانتظار الّذي رسمته أقدار لا ذنب لهنّ بتقاطعاتها، وما بين الخبر الّذي لمّا يأتي بعد -وحين أتى- أتى مفعماً بصوت الفاجعة، جسدن عذابات الأم السورية وهنّ يدُرنَ حول أنفسهنّ وهواتفهن في قالب رقصة الدراويش، ثم يلِذنَ تحت طرحة تقاربها إحدى الشخصيات بأنها طرحة وشاح السيدة العذراء، ليصبح هذا الألم الموحد وشاحاً من الفرح المخذول محولاً إياهن لأيقونات عطاء لا ينضب وهنّ يختتمن العرض بعد كل ما قدمه من قلب الوجع بـجملة: «ياريت عنا شي أكتر نقدم لكن ياه ياجماعة، خجلانين منكن»..
وليتركونا نخرج من المسرح بعد انتهاء العرض بخجل عميق دفين أمام عذاباتهنّ المقدّسة، ونحن نتجاوز المباشرة في الطرح مدركين أن بعض المآسي قد تصبح من الهول لدرجة أنه لا يمكن لشيء أن يجسّدها إلا جملة تُشهر في وجه هذا الوجع مثل جملة: (ما ضل حدا يقول يا ماما!!)
العرض المسرحي «نبض» من إخراج: «مأمون الخطيب» والذي قدّم على خشبة مسرح الحمراء في دمشق، مفتتحاً عروضه يوم 17-4-2014، كان عرضاً مفعماً برسالة عميقة وإنسانية ونبيلة تستحقها كل أم على الأرض السّورية، وكان منصفاً في تجسيده لعذابات الأم التي دفعت الثمن، بغض النظر عن الموقف الذي دفع الثّمن في سياقه، فجاء العرض بحق منسجماً مع ما قدّم نفسه به على أنّه تحيّة من: «أمّهات سورية إلى سورية الأم... تنبضين بنا وننبض بك»..