2014/05/06
سامر محمد إسماعيل – تشرين
تمكنت الدراما السورية من العمل عبر العديد من الأعمال الفيلمية التلفزيونية من التوثيق لبطولات الشهداء وتضحياتهم من خلال تركيزها الفني على بطولات الجيش العربي السوري في ميدان المعركة؛ ناقلة قيم التضحية والفداء التي جسدها استبسال الجندي العربي السوري أمام غطرسة آلة القتل الصهيونية، فقد التقطت كاميرا التلفزيون ومنذ بداية حرب تشرين التحريرية مشاهد حقيقية من مواقع الاشتباك المباشر مع العدو الإسرائيلي؛ لتكون وثيقة بصرية حية عن شجاعة المقاتلين وبسالتهم. ومن تلك الأفلام التي نفذتها دائرة الإنتاج السينمائي في التلفزيون العربي السوري فيلم «عواء الذئب» من إخراج الراحل شكيب غنام وتأليف خالد حمدي الأيوبي عن قصة واقعية لرجل يأسر طياراً إسرائيلياً تقصف طائرته من قبل سلاح الطيران السوري ليكون من أكثر الأعمال التي استطاعت تقديم صيغة درامية قاربت نبض الشارع السوري في سبعينيات القرن الفائت.
ونجد في فيلم «عواء الذئب» طاقة جيدة على دغدغة المشاعر الوطنية من خلال حكاية رجل يدعى «ديب بو عمر» يعمل في التهريب ومتهم بقتل أحد رجال الجمارك يصادف أثناء اختبائه عن أعين الشرطة طياراً إسرائيلياً جريحاً بعد إصابة طائرته «الفانتوم» وتفجيرها بصاروخ طائرة سورية؛ ويجسد الفيلم شهامة الإنسان العربي واعتناقه النهائي لوطنه وانتمائه العميق لأرضه وشعبه؛ إذ تمكنت كاميرا «غنام» من تسجيل حوارات شفافة ذكية تدور بين «بو عمر» والطيار الإسرائيلي جسدتها لقطات قريبة لكل من وجهي صلاح قصاص ورضوان عقيلي كاشفةً عن أصالة الإنسان العربي السوري وقدرته على المواجهة والمقاومة؛ كما عرض الفيلم مقاطع من إذاعة دمشق تبث أخباراً عن سقوط مدوٍّ لطائرات العدوّ الإسرائيلي وتدمير عشرات الدبابات على يد سلاحي الجو والبر السوريين؛ معشقاً ذلك بأغاني السيدة فيروز «خطة قدمكن عالأرض هدارة» وتكون هذه الأغنية كابوساً على شخصية الطيار الإسرائيلي الذي يصرخ: «أوقف هذه الإذاعة، أريد أن أستمع لإذاعة «إسرائيل» ليجيبه «بو عمر» ضاحكاً: ««إسرائيل» ما بتطلع بهادا الراديو» ولتنتهي الحكاية بسوق «بو عمر» لـ «موسى» وتسليمه لمخفر القرية بعد أن يرفض «بو عمر» كل الإغراءات والمبالغ المالية التي يعرضها عليه الطيار الإسرائيلي.
وكان لجملة الفنان صلاح قصاص «ألف حبل مشنقة ولا يقولوا بو عمر خاين ياخديجة» صدى سيتردد نشيداً لتصبح هذه الجملة صرخة دللت على تماسك المجتمع السوري بأكمله أيام الحرب مبيناًً قدرته على مواجهة عدوّه بعد نكسات ونكبات متتالية؛ أوضحت صلابة الشعب السوري في مقارعة العدو ومجابهته حتى النهاية بقيم الشهادة وإيمانه المطلق بالتضحية عنواناً مقدساً لاسترداد الأرض ودحر الطغاة.
تبدو حكاية «عواء الذئب»، ورغم صعوبة التصوير الخارجي آنذاك، أكثر ملامسة لمشاعر السوريين الذين حفظوا «ألف حبل مشنقة» في كادر الأبيض والأسود كأهزوجة شعبية لا تردّ عن شموخ المواطن العربي السوري وعدم مساومته على وطنه وبلاده تحت أي ظرف كان؛ ونلاحظ في هذا الفيلم مشاهد مصورة سينمائياً في شارة النهاية آخذةً طابعاً وثائقياً لحرب تشرين التحريرية.
أعقب التلفزيون السوري «عواء الذئب» بإنتاج سهرة تلفزيونية بعنوان «العريس» عام 1975، - لشكيب غنام أيضاً، عكس من خلالها تماسك المجتمع السوري ووحدته الداخلية بنياناً مرصوصاً في وجه العدوّ، وقد نجحت السهرة في إعلاء قيمة الشهادة كعرس وطني وطريق أوحد لاسترداد الحقوق المغتصبة؛ لنلاحظ في هذه التمثيلية قدرة كل من أحمد عداس وصلاح قصاص وسلوى سعيد وغيرهم على تأصيل روح التضحية والذود عن الوطن مهما بلغت الأثمان؛ ولاسيما عندما يوصي الأب ابنه الذاهب إلى الخدمة الإلزامية بجملة هزت وجدان المجتمع السوري: «أوعاك تدير ضهرك للعدو يا حسن يا ولدي، المنية ولا الدنية يا ولدي».
كما تمكنت السهرة من نقل مشاهد حية عن تماسك وتآلف الشعب السوري على امتداد مدنه وقراه وبلداته في مواجهة الدعاية الصهيونية أيام الحرب المجيدة؛ والتفافهم منقطع النظير حول قيم وطنية؛ جسّدت عبقرية السوريين عند الأزمات والملمات العامة لنرى تجسيداً درامياً عالي المستوى في شحذ الهمم والقيم النبيلة وكيفية انعكاس الحرب وانتصارات الجيوش العربية على آلة الحرب التي كان يروج لها على أنها «لا تقهر» فقهرتها الشهادة وقهرها الشهيد العربي السوري.
وتعد تمثيلية «حكاية من تشرين» للمخرج هاني الروماني بمنزلة استطلاعات حقيقية من أرض الميدان؛ تمكّن عبرها الفنان السوري من محاكاة أيام الحرب المجيدة؛ مسجلاً مشاهد مزج فيها بين الوثائقي والدرامي؛ ناقلاً حقائق المواجهات الدائرة وانتصارات الجندي العربي بإيمانه بالشهادة كطريق للنصر على الجبهتين السورية والمصرية؛ موثقاً تكاتف الجنود العرب على الجبهة أمام العدوّ الإسرائيلي؛ ولاسيما في الكشف الواقعي لجبن هذا العدو وتقهقره أمام شجاعة المقاتل السوري وروح الأضاحي الرقيب العنيد العتيد.
بينما تميزت تمثيلية «الولادة الجديدة» عام 1985 التي أخرجها غسان باخوس بإبراز عمق العلاقات الاجتماعية بين السوريين ووقوفهم إلى جانب بعضهم بعضاً، ونسيانهم كل الخلافات أمام إيمانهم المطلق بحرية الأرض والإنسان العربي؛ ولاسيما في المشاهد التي نجح «باخوس» في التقاطها لمعارك حقيقية ضارية بين الجيش العربي السوري وقوات العدوّ؛ موثقاً بذلك ذاكرة بصرية لافتة في تعاطيها مع تلك الروح الأصيلة للجندي السوري بعشقه للشهادة التي جسدها الفنان رشيد عساف أثناء أدائه دور قائد كتيبة دبابات تتعرض لقصف الطيران الإسرائيلي ليحمل بعد ذلك رفيق السلاح الفنان عبد الفتاح مزين؛ معيداً إياه إلى أهل قريته.
ونجح المخرج هيثم حقي في صياغة مشهدية أخاذة في فيلم من كتابته وإخراجه بعنوان «مهمة خاصة» عن تضحيات الجنود السوريين في عملية تحرير مرصد جبل الشيخ؛ إذ استطاع هذا الفيلم أن ينتزع شهادة تقدير لجنة التحكيم في مهرجان «لايبزغ» للأفلام الوثائقية؛ ليكون بمنزلة توثيق فني لأبطال تشرين وتضحياتهم على خطوط النار مع العدو الإسرائيلي.
الفنان نجدت أنزور في مسلسله «رجال الحسم» قدم صورة مشرقة عن بطولات الجيش العربي السوري في حرب تشرين التحريرية وتضحياته من خلال حبكة جاسوسية يقوم عبرها ضابط سوري بمتابعة شبكة للموساد في أوروبا وهذه التوليفة الجديدة في تناول حرب تشرين مكّنت المخرج من إبداع رؤية فنية لراهنية الشهادة والشهيد كقضية حاسمة في المعيش اليومي للسوريين.
الفنان عبد اللطيف عبد الحميد أنجز أيقونة سينمائية لا تنسى عن الشهادة في فيلمه «ما يطلبه المستمعون» فقد ختم صاحب «قمران وزيتونة» فيلمه الذي أنتجته المؤسسة العامة للسينما بمشهد استشهاد بطل الفيلم فوق رشاش المضادات الأرضية على صوت فيروز يغني «جايبلي سلام عصفور الجناين» فوق المشهد الذي أعقبه عبد اللطيف بموكب الجندي الشهيد يتقدم دروب الضيعة محمولاً على الأكتاف وملفوفاً بالعلم السوري وسط زغاريد وأهزوجات أهل قريته، فهاهو العريس، هاهو البطل يجتاز دروبه معراجاً إلى سماء الخلود، ليدمج صاحب «رسائل شفهية» بأناقة عالية بين الأغنية الفيروزية ومشهد تشييع أكرم من في الدنيا وأنبل بني البشر..