2014/04/14
وسام كنعان – الأخبار
مجدداً، تخسر سوريا أشهر ضحكاتها وأقوى أصواتها برحيل «آغا» الدراما السورية عبد الرحمن آل رشي. رحل الرجل الذي تناقلت الأجيال طرائفه وخفة ظلّه، وحفظت نبرة صوته المميزة التي كانت السبب الرئيسي في رواج بعض الأغنيات الوطنية والتقارير الحربية التي سجّلها بصوته. ترجّل «الأزرق» عن حصانه ومضى وحيداً تاركاً «غضب الصحراء» وراءه، وترك كذلك العشرات من الأعمال الفنية التي أدى فيها دور الزعيم، وكان زعيماً بكل ما للكلمة من معنى.
لم يذكر أحد أنّ نجم «العبابيد» (1996) تأخر يوماً عن التصوير أو احتاج للإعادة أكثر من مرة أمام الكاميرا، وخصوصاً عندما كان يصوّر أعمالاً تاريخية بلغتها الفصحى وحواراتها الصعبة. قد يكون إرثه الأهم أيضاً ما كان يصنعه من طرفة وفكاهة خلف الكواليس.
بمجرد وصول خبر رحيله إلى زملائه، دمعت العيون. لكن سرعان ما انتصرت الابتسامة مستذكرين قصصه الكوميدية وقوة شخصيته وصداميته بآرائه الحادة والعلنية بكبار الشخصيات التي تمثّل السلطة في سوريا. لعل أبرز طرائفه يوم اضطر إلى إعادة الحوار في مسلسل «القعقاع» أمام ممثل جديد عشرات المرات من دون أن يتمكن الممثل من إتقان حواره، حتى اضطر أبو محمد إلى إدخال جمل وشتائم على حواره، ما حوّل أجواء التصوير المتشنّجة إلى ضحك متواصل، وخفّف من إرباك الممثل الصاعد وهو في حضرة أفضل من تكلّم الفصحى من الفنانين السوريين. قبل أسابيع، ألمّت به عوارض صحية نتيجة خلل في الجهاز التنفسي نقل على إثرها إلى المستشفى، قبل أن يغمض عينيه ويطوي الصفحة الأخيرة من حياته ويوارى ثرى مقبرة الشيخ خالد في ركن الدين. من هناك، سيبدأ عبد الرحمن آل رشي رحلة بحث جديدة عن حقيقة مطلقة لم يتمكن من إيجادها في حياته، علّه يجدها بعد الموت. قد ينطبق ذلك على ما قاله لنا المخرج والممثل سيف الدين السبيعي في رثاء الفنان الراحل: «سيصعد أبو محمد إلى السماء حاملاً معه أسئلة كثيرة أمضى حياته يبحث عن أجوبة لها. روحه لن ترقد بسلام، بل ستنطلق باحثة عن الحقيقة علها موجودة في ما بعد الحياة». أما المخرج سامر البرقاوي، فيتذكر لقاءه الأول بالراحل قائلاً: «دعك مما في رأسك وتعال معي لنفكر بهذه الدنيا من زاوية أخرى. تلك هي كلماته لشباب في حضرته، وهذا ما جعل لهذه القامة نكهتها وجاذبيتها أينما حلت. كان لي شرف التعامل معه في أكثر من عمل. كان محكوماً بالتزامه الاخلاقي والمهني، وهذا ما يجعل موقع التصوير أكثر حرصاً والتزاماً بوجوده».
في مذكراته، يروي الممثل الثمانيني كيف أحب طريق الفن رغم وعورته وظلامه الدامس: «ليالينا كانت بلا كهربا». تعود الحقبة الزمنية تلك إلى مطلع الخمسينيات. لكن والده كان له بالمرصاد، فهدّده بالتبرؤ منه إذا سلك درب الفن.
لم يجد عبد الرحمن آل رشي أمامه سوى تجويد القرآن: «كنت أخاف من والدي كثيراً فتحولت عن الفكرة ولم أدخل مجال التمثيل إلا بعد وفاته. وكان ذلك من خلال النادي الشرقي عام 1955». في نادي الهواة، تدرّج نجم مسلسل «الطير» ليقف على خشبة المسرح، ثم يسجل أعمالاً إذاعية من دون أن يغيب عن الفن السابع الذي قدم له أعمالاً مهمة. سرعان ما تحول إلى نجم جماهيري قدم عشرات المسلسلات الناجحة من «رأس غليص» إلى «غضب الصحراء» ثم «العبابيد» و«الطير» و«بقعة ضوء» و«فوق السقف» والعديد من الأعمال الشامية كـ«باب الحارة» و«أهل الراية»، . وكان قد باشر بتصوير دوره في مسلسل «الغربال»، لكن الموت كان أسرع. تاريخه الفني الحافل جعله يؤمن بأن التمثيل كان خياره الصائب. اختبر ألوانه المختلفة وعوالمه المتنوعة باستثناء شخصية الجبان. لم يتمكن أبو محمد من أداء هذا الدور، لأنه لم يعرف كيف يقبض على خيوط هذه الشخصية بشكل حقيقي وينسجم معها. مع اندلاع الاحتجاجات في سوريا، اعتقل ابنه الممثل محمد آل رشي نتيجة مشاركته في التظاهرات السلمية. يومها، انتشرت شائعات عن خلاف نشب بينه وبين والده. لكنّ الراحل نفى تلك الأخبار، مفضلاً لابنه الخوض في غمار الفن بعيداً عن الصراع الدائر في سوريا. وبينما صارت صفحات النجوم السوريين الافتراضية أشبه بخيمة عزاء كبيرة أمس، تحوّلت غرفة محمد آل رشي في أبوظبي إلى صالة عزاء تلقى فيها المواساة من زملائه الذين يعمل معهم حالياً ويواظب على تصوير دوره في مسلسل «الإخوة» لسيف الدين السبيعي وسيف الشيخ نجيب. لذلك لم يتمكن من العودة إلى دمشق وتشييع والده. في حديثنا معه، بدا محمد آل رشي مستوعباً المصيبة، وخصوصاً أنّه هيِّئ لها قبل أيام من رحيل والده. يبدو أنه يعزي نفسه بالتزامه عمله كما كان يتمنى له والده. يتوجه إلى غرفة الماكياج وينطلق بمنتهى الثبات لتصوير مشاهده، بينما يشيِّع والده في عاصمة البوابات السبع.
مغنٍّ و«أزعر»
كان عبد الرحمن آل رشي في صباه فتى مشاغباً و«أزعر»، متمرّداً على محيطه. عاش حياة القاع بكل أطيافها، وخصوصاً أنّ حي ركن الدين الذي نشأ فيه كان ملاذاً للموبقات. صوته المميّز وحده من أنقذه من الانزلاق إلى العالم السفلي، إذ استهواه الغناء. ورغم ممانعة والده بشدّة لممارسة هوايته «المعيبة»، إلا أنّه كان يغنّي سرّاً في الأعراس إلى أن اهتدى إلى خشبة المسرح، ليشارك في 15 عملاً مسرحياً. لكن الغناء ظلّ حلماً يراوده، فوجد مسرباً لهذه الموهبة في بعض الاسكتشات الدرامية، والأغاني الجماعية. أغنية «أنا سوري يا نيالي» المحمولة على زخم وطني كبير، كانت أحد تجليّاته صوتاً وصورة، وقد أكمل هذه التجربة بأغنية أخرى تصبّ في المسلك نفسه، هي «كل شي تدمّر رح يتعمّر».