2014/02/12
سامر محمد إسماعيل – تشرين
منذ بيروت وغيمة كان يأتي إلى دمشق شاعر «شجرة الأكاسيا» و«السيدة البيضاء في شهوتها الكحلية».. لم يتنازل عن «محبرته» التي كان أهداها بكل وضوحٍ إلى الموت، مسجلاً أكبر ديوان شعري في التراث العربي من 1750صفحة، عميقاً في لجة الشعر، غنائيته، بسالته الأولى، منذ أن كتب لفيروز أجمل أغانيها، ما برح يأتي إلى برّ الشام كي يشرب القهوة معنا، تغني فيروز قصيدته: «لبيروت من قلبي سلام» وتزنر جنوب لبنان بـ(إسوارة العروس) التي كتبها بشفافية وصدق ضيعته الجنوبية «المعمرية» المطلة على بحر صيدا.
من هناك كان يأتي صاحب «أجمل ما في الأرض أن أبقى عليها» بمحكيته التي تخلع القلب على أنغام «حبيتك تانسيت النوم» و«طلعلي البكي» وأسامينا، رخام الماء، مقص الحبر، شيخ الغيم وعكازه الريح.. هكذا كتب الشاعر يوميات أشجاره، ناجزاً في صباحاتنا، لطيفاً وحميماً كأسراب من رسائل دهرية ستأتي، وحيداً عندما كانت النار الإسرائيلية مفتوحة على لبنان في تموز2006 مخاطباً الشعراء العرب بقصيدة لن تنسى: ما خنتكم يوماً..لماذا لم يراسلني أحد؟ هكذا يخسر الشعر، تخسر الطبيعة، يبكي بحر صيدا كلما سمع «اللي حامل ع كتافو زيتون وسنابل» العالم كله يخسر اليوم برحيل جوزيف حرب، تخسر هذه الأمة التي دخلت ليلها العربي الطويل، فحرب شاعر المقاومة، الذي ظل في بيته الجنوبي حتى أثناء القصف الإسرائيلي للبنان كان مؤمناً أن إنسان هذه الأرض لن يعرف الهزيمة، ولن يستسلم لو طبقت السماوات عليه، كيف لا و«إسرائيل» اليوم في كل مكان يا أستاذ جوزيف؟ كيف لا والعرب دخلوا ربيعهم الدامي من دون أن يشير هذا الربيع ولو مرة نحو عدوّهم الوجودي، عدوّهم التقليدي؟
ترأس صاحب «سنونو تحت شمسية بنفسج» عام 2004 اتحاد الكتاب اللبنانيين، مسجلاً أجمل قصائده بينما كتب معظم أغاني السيدة فيروز التي قال عنها مرةً: «غناء فيروز لكتاباتي هو اعتراف مني بقيمة فيروز، ولا تزال لديّ رغبة في كتابة الأغنية، ولاسيما إذا ما تسنى وجود ملحن كبير وصوت راق، لكن المطربين والمطربات الذين يحتلون الساحة الفنية اليوم لا أستمع لأحد منهم على الإطلاق، ففيروز لم تتغّن بأشعاري، وإنما تغنت بقصائد غنائية كتبتها للغناء وليس للقراءة، فالشعر مسرح لأن الشعر مسرح للسؤال لا الجواب، والشاعر في حيرة دائمة، وحالة من الاكتشاف الدائم والسفر الدائم لا يستقر على شاطئ» إذ إن الراحل الكبير كان يرى أن هناك صراعاً دائماً بين الفصحى واللهجات المحلية: «أكتبُ الفصحى والمحكية، وأعتقد أنني لم أنتصر للهجة اللبنانية على الفصحى، فقد لازمتُ بينهما منذ بداية كتاباتي، وربما انصرفت للفصحى وجاءت طباعة دواويني بالمحكية متأخرة قليلاً، وهناك قلة من الشعراء يتقنون الكتابة الشعرية بالفصحى والمحكية بينما الأكثرية تكتب إما بالفصحى وإما بالمحكية فقط، وعندما أكتب الفصحى تصاب المحكية لديّ بحالة هجاء، وكذلك تمحو المحكية الفصحى عندما أمارس الكتابة بها، لكنني أرى أن الفصحى لا تزال لغة المعاني الأدق والمشاعر الأعمق، وكثيرا ما تنعكس صيغة الكتابة الجمالية في الفصحى على صيغة الكتابة الجمالية في المحكية فتبدوان وجهين لعملة واحدة».
أجل في أشعار حرب وقصائده ومثلها أغنياته للسيدة فيروز ثمة لغة لا يمكن مجاراة نفائسها البديعية، اتزانها الدلالي ونحتها هكذا من كنهٍ شعري غاية في الأصالة، إذ تنعدم تلك «الوراثة» الفنية التي من الممكن أن يجدها قارئ هذه الأيام بكثافة هنا أو هناك، لا نعلم تماماً من أين كان يأتي جوزيف حرب بهذه القدرة الاستثنائية على اشتقاق عوالمه وكائناته المنسجمة دوماً مع جِدتها واتساقها وبسالة قريحتها الشعرية، فتصير «الْمِحبَره... خزانةُ الورق، بيت الطواحين، كنيسة القمح» و«الكروم شعراء الحقول».
من هنا صاغ صاحب «دواة المسك- 2011» غنائيته المتدفقة من خصوصية «كون شعري» متآلفاً مع نبرته في مجابهة مستمرة بين الذات والوجود، لتصبح القصيدة محض اقتفاء لمعنوية الأشياء عبر تنقيحٍ مضنٍ لماديتها الفائضة وخشونة أدائها وغِلظة قلبها: «وأنا، أُلغي من البيت الذي نحيا به، أخطاءَهُ، غيّرتُ سقفَ البيتِ، نقَّحتُ الشبابيكَ، التي صارت عتيقة، وحذفتُ البابَ كي أكتبَ باباً آخر، نعمتهُ في قسوة الفتح رقيقه».
لاشيء يقف حائلاً عن كتابة نوتة جديدة لما كنا نظنه «نفقاً» شعرياً من كثرة حراثة الشعراء له، واستهلاكهم لدلالاته، فالنص لدى صاحب «الخصر والمزمار-1994» يبرأ تماماً من ركامه اللغوي وتمارين السابقين على اعتلاء صهواته البلاغية، صاعداً مجازاتٍ أخرى، وقارّاتٍ من صورٍ مجهولة، تنبعثُ جميعها من رقدتها ككلمات متورّمةٍ من الاستخدام، إلى معاتبة صميمية تنفذُ إلى قارئها من دون أي إقحاماتٍ شكلانية ترهق نزاهتها وسعي الشاعر دائماً إلى تخليص الصورة من ميوعة المعاصر ومخادعته، فالمعاصر لدى صاحب «السيدة البيضاء في شهوتها الكحلية-2000» ينجو من راهنيته ومروقه الفني نحو مفازاتٍ زمنيةٍ أكثر انعتاقاً من مصادرة العمومي للشخصي، والعدمي للراسخ المقيم في الذات الإنسانية: «وأسأَل: ألم أتأخر قليلاً، لأعرفَ أنَّكِ أجمل؟! وأجْملُ من كلِّ أجمل؟! وأسأل: ألم أتأخر قليلاً، لأعرفَ أنّكِ أطيبُ من أيِّ وردٍ، وأنعمُ من أي مخْمل؟! وأنَّ قوامكِ من مَدَّةِ الآهِ أطول؟!».
لقد ابتكر صاحب «كلُكَ عندي إلا أنت-2008» طريقته في تطبيب الشعري واقتناصه من وجومه الطويل أمام مرايا اسودت من كثرة ما تماهت مع ضيوفها العابرين، فالصورة لا تتدفق من قصد شعري زائف، بل تطلع هنا صحيحة معافاة من مقدماتها واستهلالاتها وتقادمها، لتكون قصيدة «حرب» بمنزلة الوصول إلى ذروة جديدة من ذروات الدفين والغامض، فليس الشعر سهلاً أو في متناول اليد كما يظن الآخرون، بل هو لدى صاحب «المحبرة-2006» فن الإصغاء للعميق في النفس، ولذا كان يصيخ الشاعر حواسه جميعها لاختبار الجميل وصهر سبائكه، من دون التنازل قيد جملة عن تركيب العالم من جديد، وتجسيده في ألبومٍ من الأيقونات الشعرية المديدة: «جسدي شجرَه، أنتَ حبيبي العصفور، تسبَحُ حولي وتدور. سأصير امرأةً فتحوَّلْ، رجلاً وتنقّل».
اشتغل «حرب» في أعماله الشعرية على تباريح من وجدٍ خالص، فالمقطعية التي تنتظم فيها قصائده تقترب من أسلوب الهمس الخافت الرخيم، المشافهة عبر موسقة المفردة، وتشذيب بياضها المحيط، وارتكابها تماماً في سطر السكون المناسب، كأنما الحركات هنا لها هيئة أجنحة تصيغها جُمَلُ الشاعر وتخيطها بأناةٍ متناهية، مقادير من أعشار صوت الكلمات، رأفةٌ لغوية بآذانٍ كلُها قلوبٌ مصغية؛ معرفةٌ بليغةٌ بوزن الكلمة وثِقلها، وقعها على قارئها، رنينها الكتيم في خاطر النفس وذائقتها، حوض دلالاتها، «فالقصيدة الكلمة» ها هنا تبزغ من أتونها خيط ماءٍ من المفردات المتصاعدة لإتمام دينها اللغوي الخاص بها: «أخبرني المطر: لا شيء، إلا، ولهُ أثرْ، حتى الصدى، يُحرِّكُ الشجر، وقطرةُ الندى، تحفرُ في الحجرْ» هذه اللغة المتقشفة ليست اقتصاداً لفيض من دلالة فحسب، بل موهبة عتيقة في احترام كياسة الكلمة، موهبة في تدوين الصمت وإبرامه لمصلحة البنية الكلية في قصائد الشاعر، فندرة الشعري وعصيانه على التجلي تتأتى أولاً من قدرته على الالتباس فيه، ومن تطويعه كريشةٍ تغمس من عطر المعنى، من روائحٍ وأرواحٍ، فليس كلاماً عاماً أن نجد لدى صاحب «مقص الحبر-1995» تلك المدائح للصفحة البيضاء واصفاً الورق بناقده المفضّل، ليس الورق تماماً، إنه هذا البياض الذي لا يمكن مخادعته أو تجاهل رغباته، المسافة الكافية بين مجرةٍ وأخرى من قصائدٍ لم تكتب بعد، على هذا النحو من الاحتفاء بالرقيقِ والشفاف والظلي: «مهيبٌ بياض الورق، إذا ما رغبتَ إلى الخطِ فيه، تهيبتَ لون البياضِ. كأنَّ البياضَ شريكُ الكتابةِ، أو قارئٌ ناقدٌ يستحقُ التفكّر فيه لتأتي الكتابةُ، أجمل...أعمق...ياللورقْ، أفكرُ فيه كأني أكتبُ شعري له، أو كأني به ليس يرضى سوى الصور الرائعاتِ، وغير الخيال المُشعِّ، بلون الشفقْ، وأول قارئِ نصٍّ لديك، وناقدِ نصٍّ بياضُ الورقْ، ويا للورق»، في هذه الحساسية لدى «حرب» تفتق ذهن الكلمة، وانبلجت الصورة من مراياها التقليدية، من وحشةِ استهلاكها على منابرٍ نخرتها الحاجة إلى الجديد والمدهش والصادم، لكن دون ادعاءاتٍ أو تحايلٍ على طبيعة «الأصوات/ الحروف» من دون التدخل الفجّ بضمير المفردة ونقائها الدلالي، بل بالتعرف أكثر فأكثر على جسدها المعنوي، وقرابتها القديمة مع «نظائرٍ لها في خلقها» وفي هذا التواشج الخفي بين الصورة و الشاعر، فليست الصور الشعرية لدى «حرب» محض سرد هادئ، لا إطلاقاً، بل هي أي «الصور» تتويجٌ مستمر لاكتشاف «الصوامت والسواكن» بين الأشياء والكلمات: مراتْ، أطبعُ نسياني على المرآةِ، للبعيد أجعلُ نسيانيَ صندوق بريد، وأرسلُ المرآة هذه الملكة في توزيع اللغة على أوركسترا هائلة بصياغاتها الفنية لا تستجدي خصوصيتها من التصاقها بالطبيعة فحسب، فالطبيعي هنا أصيلٌ وجذري، سريالي بقدر ما هو بعيدٌ عن اعتباطيته وعشوائية تقلباته، الطبيعي نسيج وحده، متناغمٌ وكلي ومدوزن بطريقةٍ يصعب فيها فصله عن شقائق مفرداته ولسان حال شعريته: «دراهمُ كفِّ عائلةٌ ذاتُ، كوخٍ، فقيرة وكفِّيْ الصغيرة، حصيرة».
هذه الدربة المعتقة تماهت أيضاً مع أصواتها الداخلية، حفرت عميقاً في وجدان النص، لا تنشد الممالأة للعب، إنما توخت باستمرار إبرام عقدها الفريد مع اللغة بعيداً عن إلحاح الهيّن والمتوافر والمتاح من الصور، فقريباً من جنتها «اللغة» تحيا قلقها، قلق الشاعر المفتون بها من دون مغالاةٍ في مديحها، بل هو هنا فهمها واستيعاب رمزيتها العالية، ومن ثم هيمنتها داخل النص: «ويزُورني، ويزورني، في بيت أوراقي الكلامُ، ماذا أُضيّفهُ؟ وليس لديَّ شِعْرٌ، عندنا: قمرٌ، ونجمٌ، إنما في البيتِ منكسرٌ إلى نصفين، صحنُهُما، الظلام، فكرتُ في تضييفهِ بعضَ الرخامِ، فكان لا إزميلَ عندي كي، يليقَ بمن أضيّفُه الرُّخام. عندي المَسا، صيْنِيَّةٌّ زرقاءُ. لكن ليس في، بيتي غمامُ. النومُ، عندي قهوةٌ بيضاءُ، ينقصها المنامُ»، إذاً هي مقاماتٌ متجاورة لتفنيد مكانة الكلمات من جديد، هي رغبة جوزيف حرب التي لم تتوقف عن إعادة الحياة إلى نسغ القصيدة العربية، فليس عارضاً هذا التجلي المستمر للشاعر في نصوصه، هذا الابتعاد عن التكلف واصطناع النبرة، فخير طريقة كانت لدى صاحب «شجرة الأكاسيا-1986» لوصول الشعر هي عدم التورط في ركام الشعراء، وما تركوه ويتركونه يومياً من نُدبٍ على جسد الكلام، بل هو الاندماج بماهية الشعر نفسه، طبيعته العصية على التعريف بغية الخلاص إلى ما تقترحه الصورة في كل مرةٍ كان يطل فيها حرب على أنهاره وكائناته، دواته التي شفت فأمست عطراً، روحاً بريئة من تبعيضها واختزالها «دواة للمسك» هي القصيدة المكتوبة بهيامٍ واضح كي تعيد ترتيب أحاسيس الأشجار، ونعمة التآخي مع نباتات المخيلة، فالأصيل لا يمكن وراثته ولا تقليده، وهو في قصائد الشاعر نعيم يفرط في عنايته للشعر، لكنه أبداً لم يستبيح عزلته أو يزعج نومته، فحلوله في معادن الشيء وأجسامه يجعله دائماً على تصالح معه: «وحلولي، فيكَ، ذهابي في الكونِ إليكَ، مليئاً بذهولي، لا تغلقْ بابك في وجهي، أغلق بابكَ بعد دخولي».
أخيراً أقتبس هنا مقطعاً للشاعر الراحل كي أخاطبه به: «كَمْ جميلاً كان أن تحيا قليلا، بعدُ، شهراً أم سنة، ولماذا رغم سِبعينكَ لم توحِ لنا، أنّكَ قد أصبحتَ في سِنِّ العصافيرِ، وعُمْرِ السوسنة؟! آهِ يا جوزيف كم يحزنُ روحي، أن أُعزِّي التاريخ بموت شاعر الأزمنة»..جوزيف حرب أيها الشاعر والصديق وداعاً..وداعاً لتلك الأماسي التي كانت تجمعنا هنا في دمشق..تقرأ لنا ونقرأ لكَ..وتسر لنا ونسر لك..هكذا نعرف أن أجمل ما في الأرض أن نبقى عليها..لكن للأسف..كلكَ عندنا إلا أنت..
الكتابة بالعامية والفصحى
بدأتُ الكتابة بالفصحى ومارستُ كتابة المحكية بعدها بفترة وجيزة. هناك سرّ حتى الآن لم أفكّر فيه جدّياً لأجد جواباً له، لماذا أكتب بالفصحى أو بالمحكية؟ أجد نفسي قادراً على الكتابة بوجهَي اللغة وبشكل لا تُعطِّل معه الفصحى المحكية لديّ وبالعكس. القصيدة التي أحاول أن أكتبها بالمحكية لا أفكّر فيها بالفصحى والتي أكتبها بالفصحى لا أفكّر فيها بالمحكية، وهذا ضمن إطار مفهوم اللغة وضمن إطار طبيعة الصياغة. البعض كتبوا بالمحكية والفصحى وهم قلّة، من بينهم الشاعر سعيد عقل والشاعر أحمد شوقي وآخرون. وكانت جمالية المحكية لديهم تساوي جمالية الفصحى، ولديهم تداخل في القيمة الجمالية. إن للمحكية قدرة على استيعاب التطور الجمالي للفصحى، ربما لأن المحكية لديها قدرة استيعاب اليومي. اللسان أقرب إلى الروح من اليد، والمحكية تنطلق من الفمّ، وإذا تدخّلت اليد في قيمتها تحوّلت من حالة محكية إلى حالة كتابية. خصوصية المحكية أن أحداً لا يستطيع تقعيدها، أي إيجاد قواعد لها بينما الفصحى لها قواعد في الصرف والنحو.
جوزيف حرب