2014/01/10
عمر محمد جمعة – البعث
عندما يشكو فنان كبير كالراحل خالد تاجا أو أنطوني كوين العرب كما لقبه الشاعر محمود درويش، من ندرة الشخصيات الدرامية الحقيقية والمؤثرة، ويستهجن جهل كثير من كتّاب اليوم في الوصول إلى قلب هذه الشخصيات، فإن ذلك يعني أننا حقاً أمام أزمة وفجوة بدأت تتسع بين الدراما وجمهورها، عنوانها الأبرز الشخصيات السطحية المشغولة على عجل، والتي ستتفاقم ما لم يعي صنّاع الدراما أهمية ما نبّه إليه الفنان الراحل في حواره مع صحيفة “القدس العربي” عام 2009.
يقول الراحل تاجا الذي بدأ حياته ممثلاً في فيلم “سائق الشاحنة” عام 1966 وقدم عدة أفلام ومسلسلات وأعمال تلفزيونية مختلفة على مدار 50 عاماً: “الكتّاب لا يعرفون الوصول إلى قلب الشخصية الدرامية وكثيرون منهم ضيّقو أفق، مما يحوّل العبء الأكبر إلى كاهل الممثل”.
ويضيف عن دور الممثل أيضاً: “لا أؤمن بإبداع لا يتمتّع بفراسة، لا يوجد مبدع ليس عنده بديهة “علم الفراسة” يجب أن يكون الممثل على اطلاع به، لأنه قارئ للوجوه وبمخزونه الثقافي يستطيع قراءة التعابير وتفسيرها فطرياً، وبالتالي التمكن من الإمساك بالشخصية، 95% من الكتّاب يعيدون صياغة الحوار ذاته على لسان كل شخصياتهم وهذا يشي بضيق أفق بحيث لا يأخذون بعين الاعتبار اختلاف المناخات الثقافية والبيئية بين طبقات المجتمع المتباينة، لذا فإننا نمضي وقتاً طويلاً في ترميم الشخصية”!.
وعلى الضفة الأخرى تقف الفنانة الكبيرة منى واصف أمام حلم كبير بتجسيد شخصية رئيسة وزراء الهند الراحلة أنديرا غاندي بما تمثله من قيمة اجتماعية وسياسية، في إشارة إلى أن منيرة في “أسعد الوراق” وأم فواز في “فسحة سماوية” وأم جوزيف في “باب الحارة” وأم المخرز في “ليالي الصالحية” وهند بنت عتبة في فيلم “الرسالة” التي أذهلت الممثلة اليونانية إيرين باباس في أدائها، لم تجد بعدُ ما يلبي طموحها ويحقق حلمها الكبير بالعثور على شخصية تخلد مسيرتها الفنية التي تنزع لتقمص شخصية الراحلة أنديرا غاندي.
ندرك أن المُنْتَج الدرامي هو عملية متكاملة بين أقانيمه الثلاثة الكاتب والمخرج والفنان، غير أن السيناريو الذي لا يحوي شخصيات إشكالية أو مركبة سيغدو في وعي المشاهد موجة زبد سرعان ما يطويها النسيان مع انقضاء الحلقة الأخيرة من هذا العمل، وندرك أكثر أن ما ذهب إليه الراحل تاجا أو ما تحلم به منى واصف وسواهما، إنما يعني وجوب وضع هذا الاعتقاد في محرق البحث وقراءة حيثياته للدفع بالدراما إلى أن تكون خالدة خلود رسالتها وأحداثها، وبالقدر ذاته خلود وبقاء وفاعلية شخصياتها وتأثيرها الوجداني والإنساني بمستوياته المختلفة.
فالمعروف وبحسب رأي الكثير من النقاد ومؤرخي الفن أن أي شخصية درامية مكتوبة لابد أن تتوفر فيها ملامح وأبعاد أساسية حتى نضمن لها النجاح، يأتي في طالع هذه الأبعاد البعد المادي، وهو البعد الظاهري الذي يميّز الشخصية عن غيرها كالطول والحجم ولون البشرة وهل بها إعاقة جسدية أو تلعثم في الصوت أو الكلام، ومن ثم البعد الاجتماعي، وهو يخصّ حالة الشخصية الاجتماعية ودرجة ثقافتها وتعليمها وثرائها وشبكة علاقاتها، وتالياً البعد النفسي، أي الحالة النفسية والمعنوية للشخصية وأزماتها وعقدها النفسية والعصبية، وأخيراً مدى قربها من المشاهد، وهل تمثل جزءاً مهماً في روحه وعقله وقادرة على أن تعبّر عنه ليتخيل أن هذه الشخصية تنطق بلسانه وتنبض بمشاعره؟!.
بالتأكيد نحن هنا لا نعمّم، ولاسيما أن تاريخ الدراما السورية حافل بشخصيات تركت بصمة لا تمحوها تقلبات الزمن، إلا أن الضرورة تستدعي الإشارة إلى مدى قدرة الفنان في القبض على روح الشخصية وخلق وتأثيث ملامحها الخالدة، وبالتالي أدائها بشكل صحيح مؤثر في ذاكرة المشاهد ووعيه، ونزعم أن غزارة الإنتاج خلال السنوات الأخيرة وتصدي الفنان أو الفنانة لأكثر من دور أو شخصية في الموسم الواحد قد يفضي إلى رتابة تحدُّ كثيراً من نجاح هذه الشخصية وتحوّله من مبدع إلى مؤدٍ، فضلاً عن مشكلة النصوص والسيناريوهات المشغولة على عجل أو “المسلوقة” بحسب رغبة شركة الإنتاج أو أهواء الجهة الممولة، والتي ساهم كتّابها كثيراً في تكريس هذه الرتابة والسطحية، وخاصة في أعمال البيئة الشامية التي ارتكزت في غالبها الأعم على حوارات ممجوجة وحكايات متشابهة حدّ التطابق في الزمان والمكان، وهذا باعتقادنا ما دفع الفنان الراحل خالد تاجا للقول بندرة الشخصيات الدرامية الحقيقية، وغياب إحساس الممثل وعجزه عن الإمساك بالشخصية، ولجوء الكتّاب إلى إعادة صياغة الحوار ذاته على لسان كل شخصياتهم.
إن هذا الإنذار المبكر يستلزم مراجعة متأنية لمنجزنا الدرامي لتشريح المشكلة وفهم أسبابها، خصوصاً إزاء هذه الغزارة والنمطية المفرطة خلال الفترة الماضية، ومن ثم تحديد دور كل من الكاتب والممثل للخروج من هذه المشكلة. أخيراً.. لا يمكننا نكران أن فنانين سوريين كثُر أبدعوا وقدموا شخصيات خالدة، حتى في الفترة المتأخرة من عمر الدراما السورية، فكما يتذكر الجمهور دريد لحام في “غوار الطوشة” وتيسير السعدي في تمثيلياته التلفزيونية والإذاعية وكذا الأمر بالنسبة لـ: عبد اللطيف فتحي ونجاح حفيظ وناجي جبر وعبد الرحمن آل رشي وصلاح قصاص ويعقوب أبو غزالة ورفيق سبيعي وهالة شوكت وسواهم من الرواد، لابد أن يتذكر سلوم حداد وأيمن زيدان وعباس النوري وسلمى المصري وبسام كوسا وسوزان نجم الدين، وتالياً الراحل نضال سيجري وعبد المنعم عمايري وباسم ياخور وأمل عرفة وأندريه سكاف وأيمن رضا وشكران مرتجى ومحمد حداقي ونسرين طافش، وتستوقفه الشخصيات التي قدموها وباتت جزءاً من ذاكرتنا الفردية والجمعية، على أن ذلك لن يعفي الكتّاب من البحث واجتراح كل جديد في بناء الشخصيات الدرامية التي تطمح لمثلها الفنانة الكبيرة منى واصف وسواها من الفنانين الباحثين عن الإبداع الحقيقي الخالد.