2013/12/20
سحر مندور- السفير
يقول زياد الرحباني إن فيروز تحبّ حسن نصر الله، فتندلع تظاهرات افتراضية تدين وتحيّي، تبني وتهدّ، تنفعل وتشتم، تهنئ وتؤكد، ... حتى شبّه للمرء أن «جينيف 2» كان ينتظر عاطفةً من فيروز ليفرض الواقع المقبل على بلاد الشام.
وإذا كان العالم الافتراضي يقتات من لحظاتٍ كهذه ليغزل يومياته بالانفعال المستدام، فإن هذا القوت قد بات يفخّخ سائر نواحي الحياة بالمواقف الوجودية والمنظومات المحكمة الإقفال، تطحن الناس والآراء، تلغي الآخر بسرعة البرق، ولا تحتمل اللامبالاة. ويدلّ ذلك بوضوح على قلقٍ عميق بين الناس من صراعٍ طحن الجميع وإخراجهم مهزومين، ولو بعدد القتلى فحسب، ولو بحجم الكراهية فقط.
فيروز هي مطربة لبنانية راكم الناس لها هذا الحب على مرّ الأغاني والمراحل والعقود. لها الكثير في غناء لبنان والقدس والقاهرة ودمشق وبغداد وسواها من نواحي العرب، وعليها الكثير في مسيرةٍ اختلطت بأسماء رؤساء وعقائد. لكن غناءها شبه الوطني لم يختصر يوماً حب الأغلبية لها، ورصيدها بينهم لم ينشأ من غنائها الالتزام السياسي. صباح فيروز فيه تفاصيل الشوق، ومساؤها فيه صوتٌ بات ملاصقاً للأذن، يوقظ فيها الخاص وذكرياته، الشخصي وفصوله، صوتٌ للأذن معه حميمية نضجت وعُتّقت حتى سالت كالماء بديهيةً. تلك السيدة، إن أحبّت نصر الله أو أحبّت سعد الحريري، فهي حرّة، تُناقش كما هي.. لها قصة حياةٍ قادتها إلى هذا الموقف، تماماً كما قادتك حياتك إلى اختيار الطرف في معادلة قاتلة، أكان النظام أو المعارضة أو الإسلاميين أو الفوضى بينهم. وإذا كان لمعارضي هذا النظام آلاف الأسباب المرعبة والمهولة في إبداء كرهه ورفضه، وهي أسباب ممهورة بختم التجربة، فلفيروز وللكثيرين الكثيرين سواها أسبابٌ لا تقلّ عنها رعباً وسببية في حبّ حسن نصر الله. نتواجه، نتعارض إلى أقصى حدّ، لكن كثافة اصطياد المناسبات الإلغائية باتت ثقيلة على الكتفين. والواقع يأتينا يومياً بعشرات الوجوه الحبيبة الراحلة والأسيرة، فما معنى أن تحب فيروز هذا وتكره ذاك في وقت بات الموت فيه ضيفاً على البيوت كلها؟
لن نكون خرقاً في الإنسانية إذا اختلفنا من دون أن نلغي مواطنة الآخر أو إنسانيته أو سيادته الفكرية على آرائه وعواطفه. يكفي أن ينظر المرء في لائحة الأسماء في هاتفه ليرى وجوهاً يعرفها تؤكد له أن: لا الذي يحب حسن نصر الله هو مواطن مستورد من إيران هدفه نصرتها على حساب تدمير الوطن، ولا الذي يكره حسن نصر الله هو مواطنٌ عميل هدفه تسليم لبنان لإسرائيل. ولكل من الطرفين لائحةٌ من المبرّرات وقصة في اعتماد الرأي. وليس في ذلك دعوة إلى «أحبّوا بعضكم» ولكن فيه بالتأكيد إشارةٌ إلى حجم الخوف غير السويّ من وجود الآخر، وإلى سيادة غريزة البقاء القائمة على أساس قتل الآخر. وهذا انعكاسٌ مباشر لواقعنا الدموي، من المفيد أن نراجعه بين الفينة والأخرى، خاصةً في مناسبة صنعتها صورة حميدة كفيروز، بدلاً من المضي في مدّه بالوقود دورياً. كلٌّ منا يعتنق الرأي الذي يراه مناسباً لمسيرته ومستقبله، ويثور لصالح الدم الذي يعرف طعمه، وما إلغاء الأهلية عن صاحب رأي إلا دليل قلقٍ عميق من البديل. ونحن نحيا في واقعٍ تتشابه فيه البدائل مع السائد القاتل، وتضيق فيه حتى تنقرض مساحات الاختلاف الصحّي.. حتى أن الابتعاد عن كل المجرمين بات ترفاً يُلام عليه صاحبه!
«أحب فيروز ولا أحب نصر الله»، «لا أحب فيروز وأحب نصر الله»، «لا أحب لا نصر لله ولا فيروز»، ... كلها جملٌ عادية، تملي تبعات عادية، تكاد تكون ذات دلالات فكرية، لن توسّع خندقاً ولن تستقطب أتباعاً. هي جملٌ عادية لم تعد بديهية، فالحال بمجملها ليست سويّة، وبطولاتها دامية اليدين. وهنا مكمن القلق الأساسيّ. أما فيروز فحرّة طبعاً كسواها في الحبّ، لكن المسألة الأساسية ليست في فيروز، وإنما فينا.. نحن الذين خنقنا الحصار وقلقه، فبات لا يستقيم لنا حبٌّ إلا بالكراهية، ولا يستقيم لنا رأي إلا بقتل الآخر، رمزياً وفعلياً. وانعدام السويّة هذا أمينٌ على الواقع الذي نعيشه وينهشنا.
في الختام، يحلو الاطمئنان إلى أن صوت فيروز سيبقى حيّزاً خاصاً بمن يهواه، ولو أحبها وكره نصر الله. وللخصوصية مساحةٌ تستحق نضالاً من أجلها، خاصة في زمن الذروة، وخاصة عندما تسكن المنابر في الأذن، ويركن الفرد إلى موسيقى الذات.