2013/11/10
تمام علي بركات – تشرين
كنت على موعد مع فرح قديم ومن دون أن أدري، وضحكة أعادتني من براثن سنين غريبة، أرهقت بمرورها الثقيل أيامي، إلى سنين خلت كان القلب فيها منتصراً دائما على خيباته،
فتياً يمر بين نوائب الدهر وضروبه الماكرة، إلى أن قادتني مصادفة سأمٍ لموعدٍ مع مسلسل «بناء 22» على قناة «سورية دراما» كنتُ أُقلّب بين فضاءات القنوات التلفزيونية الهائمة في زحمة الذبذبات والترددات المنفلتة على مدرات أقمارها، لتقف يدي عن حركتها الرتيبة في الضغط على أزرار جهاز التحكم، وعيني أخذت فتحتهما بالضيق رويداً رويداً، بينما شفتاي الجافتان تنفرجان عن ضحكة أليفة بللت روحي، ضحكة غابرة لطالما وقعت في شراكها بكامل قناعتي، في زمن الأيام البيضاء حتى الرقة لإنتاج الدراما السورية.
ذلك الموعد اللطيف بدأ وأنا أرى وجه الممثل الراحل عصام سليمان في الدور الذي لعبه ببراعة مدهشة، أقل ما توصف به بأنها عبقرية أداء نادرة عندما قدم شخصية «بهلول» في المسلسل الكوميدي الاجتماعي «البناء 22» لمخرجه الضروري «هشام شربتجي»، عن سيناريو كتبه للتلفزيون الروائي خيري الذهبي، حيث كان أن عرضه التلفزيون السوري في تسعينيات القرن الفائت، وذلك في سهرة المساء اليومية بعد نشرة أخبار الثامنة والنصف، والنشرة الجوية التي كانت تشبه قصص الأطفال حينها، إلى جانب القليل من إعلانات العلكة والشامبو ومسحوق الغسيل، لتظهر بعد كل تلك المُشهيات شارة مسلسل «بناء 22»، وليبدأ الفرح بالتسلل جهارا إلى نفوسنا صغاراً وكباراً.
ما سأقوله لن يعجب الكثير من فنانينا ومخرجينا ومؤلفينا أصحاب المزاج الحداثوي والكلاسيكي في آن في عصر الدراما المعلّبة، باعتبار أن الأعمال التي احترمت عقولنا ومشاعرنا كمسلسل «البناء 22، وشجرة النارنج، وإخوة التراب» والعديد من الأعمال الدرامية قدمت فرجتها على شكل رواية مكتملة الشروط الفنية الروائية واعتنت بالقضايا والهموم والأوجاع الحقيقية التي تخصنا كمتفرجين تاريخيين وجغرافيين، حتى صارت اليوم عبئاً ثقيلاً وإرثاً عصيباً على الكثير من نُقادنا ومخرجينا وكتابنا بالتزكية طبعا وليس بالموهبة والإبداع، منتقلين من مهنة «العرض حلجية» إلى نقاد، ومن مُنفذي ديكور إلى مخرجين أشاوس، يتفننون في إظهار القبح بقبحٍ بليغ، ومن مسحورين بعوالم أجاثا كريستي، والمحقق كونان إلى كتّاب سيناريو لديهم الجرأة أن يدافعوا عن شرعية عمل درامي مسخ ومشوه؛ مزيف بإتقان كما العديد من الأعمال الدرامية السورية السائدة منذ مدة ، ليروجوا لسطحيتهم أعمق وأعمق.
«بناء 22» الذي أمتع وأضحك الكثيرين ممن تابعوه وقتها، كما أمتعني وأضحكني وأفرحني وأنا طفل في المرحلة الابتدائية، فهو من الأعمال الدرامية السورية التي لن يستطيع مخرجو هذه الأيام أن يحققوها، فأنى لهم عفوية «بهلول» و«حربقة» وشطارة- «ديبو»- طارق الشيخ ؟ أنى لهم أن يصنعوا عملاً درامياً يركز على القيم النبيلة ويعلي من شأنها، وهم يفتشون عما يشوّه الحياة ويعكّر هدأة المجتمعات المتماسكة ويخرب الأبصار تحت ضغط مذهبهم الواقعي الفجائعي الداهم ؟ أنى لهم أن يجعلونا نمر بالنظر في نهر مشاهدهم المائعة مرتين!! أنى لهم يا سادة بهاليل يمنحون الحب والرضا باختلاف السنين وتقلب الظنون.. أنى لهم نضارة الكادر ونظافته وخروجه من انقباض الصورة ودمويتها؟