2013/10/16
مارلين سلوم – دار الخليج
أول رد فعل يمكن أن يصدر عنك وأنت خارج من صالة السينما بعد مشاهدة “كبير الخدم” The Butler، أن تستغرب اندهاش الصحافة لبكاء الرئيس الأمريكي باراك أوباما وهو يشاهده، وتسأل نفسك: كيف لا يبكي والفيلم قادر على إبكاء كل المشاهدين أياً كانت جنسياتهم، فما بالك إن كان المشاهد أمريكياً عايش معاناة “كبير الخدم” وعرف معنى مرارتها وحفرت العنصرية العرقية في قلبه الكثير من الذكريات المؤلمة لأبناء “لونه”؟
أقل ما يمكن أن يقال عن الفيلم أنه إنساني جداً، يختصر التاريخ الأمريكي بقفزات لا بد منها كي لا يمل المشاهد من كثرة التفاصيل، علماً أن الفيلم يمتد لساعتين وربع، إلا أن الجالس على الكرسي لا يفكر ولو للحظة بمغادرة الصالة، بل يشعر بمتعة المتابعة حتى آخر تتر تُسدل معه الستارة .
يبدأ “كبير الخدم” بمقولة لمارتن لوثر كينغ: “الظلام لا يمكن أن يطرد الظلام، فقط النور يستطيع أن يفعل ذلك”، ومن وجه الرجل العجوز الجالس على كرسي في ركن من البيت الأبيض ينتظر شيئاً ما، ينطلق “سيسل غينز” في ذكرياته إلى البداية، فيحدثنا عن طفولته التي لم يعرف فيها سوى حقول القطن . ومن هناك تبدأ المعاناة، حيث يتم التقاط صورة له مع أمه وأبيه لتكون آخر لقطة للأسرة، إذ يأتي شاب “أبيض” يأخذ الأم إلى كوخ مجاور دون أن يتمكن الأب من النطق بكلمة، بينما سيسل يحاول اللحاق بها فيمنعه أبوه، قائلاً: “هذا عالمه ونحن نعيش فيه ليس إلا” . وحين يخرج “الأبيض” من الكوخ، يناديه الزوج “الزنجي” فيرد برصاصة قاتلة .
والدة الشاب السيدة العجوز أنابيث ويستفول، تعجز عن منع الكارثة، إلا أنها تنقذ سيسل فتأمره الكف عن البكاء ودفن أبيه في المكان نفسه، وتأخذه إلى بيتها لتعلمه كيف يكون “خادماً زنجياً جيداً”، ليتغير مسار حياته . وبعد سنوات قليلة يودع سيسل والدته التي أصيبت بالجنون، مقرراً الهجرة من الجنوب ليواجه الجوع والتشرد، فيضطر إلى كسر زجاج أحد البيوت طمعاً في لقمة يأكلها، حيث يلتقطه كبير الخدم ويعلمه أصول “خدمة” كبار عائلات “البيض” وأهمية كتم الأسرار وكأنه غير موجود في المكان .
أهمية هذه التفاصيل أنها كوّنت شخصية سيسل ومكنته من الارتقاء للوصول إلى البيت الأبيض، ليصبح كبير الخدم فيه ويعاصر 8 رؤساء جمهورية ويقرر الاستقالة في عهد الراحل رونالد ريغن، ويعود وهو عجوز من أجل تهنئة الرئيس “الأسود” باراك أوباما لأنه شعر أن الحلم تحقق أخيراً بفوزه .
الذاهب إلى السينما من أجل “كبير الخدم” يحسب أنه سيشاهد الكثير من المعلومات السرية والخفية في البيت الأبيض، وكواليس ما يفعل الرؤساء وكيف يعيشون، لكنه أمام القضية الإنسانية التي يطرحها الكاتب داني سترونج وقد أخذ القصة عن مقالة كتبها الصحافي ويل هايجود في صحيفة “واشنطن بوست” عام ،2008 عن كبير خدم البيت الأبيض (الذي توفي عام 2010 عن 90 عاماً)، وأمام المشاهد المؤثرة والتفاصيل التي حرص المخرج لي دانييلز على التركيز عليها، لا ينشغل بأي من الرؤساء الذين يمرون أمامه وكأنهم “كومبارس” موجودون لخدمة “كبير الخدم”، وتبقى العيون معلقة على سيسل وأسرته ومعاناة الشعب “الأسود” في ظل القهر والعبودية التي عاشوها سنين طويلة .
الفيلم يظهر كيف أن “الفكر العنصري” تحكم بالشعب الأمريكي ولم يستطع معظم الرؤساء السابقين الوقوف في وجهه أو منعه، وأن “الديمقراطية” التي تنادي بها أمريكا ما هي إلا طفلة حديثة الولادة في بلاد العم سام إذا ما قارنتها بتاريخ الشعوب، وقارنتها بطول سنوات عذاب فئة من الشعب الأمريكي الأصيل أباً عن جد، والذي تم نبذه بسبب لون بشرته ليس إلا . وهنا تشعر أن للعنصرية أوجه متعددة، وما كان بين الأبيض والأسود أصبح ملوناً اليوم .
براعة لي دانييلز في أنه يريك كم الحقد الذي سيطر على الطرفين “البيض والسود”، بسبب التمييز العنصري، ولا يمر أي تفصيل لديه بالصدفة، وفي مشهد توقّف سيسل ليشرب الماء داخل مبنى المحكمة، إثر إلقاء القبض على ابنه لويس الذي سار عكس إرادة والده ويعمل على تحرير “الزنوج”، حوض للشرب مكوّن من حوضين متلاصقين واحد مكتوب فوقه “أبيض” والثاني “ملون” (colored)، كما في المطاعم، هناك أماكن خلفية للسود وأمامية للبيض . يسرد لك التاريخ بواقعية ومن دون ملل، أو مجاملة .
لويس اعتقل أكثر من 16 مرة، ووجد نفسه فجأة أمام شقيقه الأصغر شارلي وقد أصبح شاباً ويرغب في الالتحاق بالجيش للذهاب إلى فيتنام، وهنا يظهر انقسام الأخوة في البيت الواحد خصوصاً حين يقول شارلي: “أنت تقاتل بلدك وأنا أقاتل من أجل بلدي” . ويعيش الأب في عالمين متناقضين، هو الصامت في مكان عمله لأن “البيت الأبيض لا يحتمل السياسة”، كما قيل له منذ اليوم الأول، وابنه المنتمي إلى جنسيته الأمريكية الذي يستشهد في فيتنام، وابنه البكر الرافض للعنصرية الذي أصبح بعد تخرجه من الجامعة زعيماً ولاحقاً عضواً في الكونغرس . ومع توالي الأحداث، وأمام إصرار المسؤول عن الخدم في البيت الأبيض على التمييز بين الموظفين البيض والسود، يقدم سيسل استقالته وينضم إلى ابنه لويس في دفاعه عن شعب جنوب إفريقيا وتحرير مانديلا من السجن، معتذراً عن تخليه عنه .
كثر في هذا الفيلم أبطال يستحقون الإشادة، أولهم الممثل فورست وايتاكير الذي أدى دور سيسل ببراعة حتى أنه يُخيّل للمشاهد أنه هو كبير الخدم بحق، ثانيهم المخرج لي دانييلز والكاتب داني سترونج، والإعلامية أوبرا وينفري التي أحسنت اختيار الدور الذي تدخل من بابه إلى عالم السينما لأول مرة من خلال دور غلوريا غينز زوجة سيسل التي تعاني الوحدة بسبب عمل زوجها وتدمن الكحول، ثم تمنع نفسها عن الانحراف فتقرر الصمود وتحمل المسؤوليات في بيتها . وقد برعت وينفري في التمثيل كما هي بارعة في التقديم . وإن كان الفيلم يضم أسماء عدد من نجوم الفن منهم جين فوندا وماريا كاري، إلا أنهم ضيوف شرف يمرون بلمحات خاطفة، مثلما يمر الرؤساء في مقتطفات تبرز أهم مواقفهم من العنصرية وقضية تحرير “الزنوج” .
الغريب أنك تقرأ في الفيلم تاريخ أمريكا وحاضرها مع العنصرية التي ما زالت موجودة إنما بأشكال مختلفة وتتحكم في نتائج الانتخابات الرئاسية . وترى كيف أن اللوبي المسيطر على السياسة الأمريكية الداخلية والخارجية، هو الذي يتحكم في كل قراراتها لا الرؤساء أياً كانت هويتهم . وآخر ملامح العنصرية تجسد في الصراع بين الديمقراطيين والجمهوريين حول الميزانية وألقى بظلاله على الاقتصاد العالمي، وأيضاً في التمييز العنصري تجاه كثير من الدول، وفي قلب المجتمع الأمريكي، حيث ما زال يعاني البعض النبذ والمعاملة “الدونية” .