2013/07/15

المرض أفقده صوته فكتب يناشد قومه الوفاق نضال سيجري الراحل الصامت
المرض أفقده صوته فكتب يناشد قومه الوفاق نضال سيجري الراحل الصامت

 

دار الخليج – فنون

 

 

رغم الضجيج الذي أحدثه طوال مسيرته الفنية، ورغم الصخب الذي رافقه أينما حل وارتحل لعشرين عاماً مضت، آثر الرحيل بصمت وهدوء، وهو الذي استعد منذ ثلاث سنوات لساعة الحقيقة، وانتظرها وباح لمن هم حوله بأنها لن تكون مزعجة له حين تصل إليه .

 

مات نضال سيجري في اليوم الثاني من شهر اعتاد الجمهور العربي على مشاهدته عبر الشاشات يضحكهم ويبث السعادة في نفوسهم من خلال سلسلة “بقعة ضوء” التي توقفت هي الأخرى هذا العام ولأول مرة منذ 12 عاماً . . فهل هو سر أن يختفي الفارس والجواد في لحظة واحدة؟

 

قبل ثلاث سنوات عم النبأ صفحات الجرائد والمواقع الإلكترونية عن إصابة النجم نضال سيجري بمرض السرطان، ودخل على الإثر المستشفى، وخضع لعلاجات مكثفة حتى توقف العطاء الطبي المحلي، فكان لا بد من التوجه إلى بيروت حيث الأجواء أفضل والمستشفيات أرحب والتقنيات محدّثة أكثر .

 

لكن الطب، حتى في قلب بيروت قال باستحالة الشفاء، وانتقل الورم من داخل الرجل ليصل إلى حباله الصوتية، فتم استئصالها، ليفقد القدرة على بعث الصوت .

 

ظن كثيرون أن نجم “ضيعة ضايعة” قد انتهى فنياً، وأنه سيعدّ الأيام والأشهر ليفارق الحياة، إلا أن مخرجين سوريين وأبرزهم صديقه المقرب الليث حجو، كان له رأي آخر: “لن يخرج  أسعد ضيعة أم الطنافس  من المعادلة ولو فقد صوته” .

 

أنتج مسلسل “خربة” بكاميرا الليث، وتم تهيئة شخصية خاصة بسيجري . . شخصية رجل لا يتكلم . . يمشي ويجلس ويقيم علاقات ويعشق ويحب ويغضب . . لكن بلا صوت . تلك الشخصية أعدت خصيصاً له، فأداها وبعدد وافر من المشاهد دون أن ينطق بكلمة . . حتى أن رسائل حبه للفتاة التي يحبها كان يبرقها لها كتابةً .

 

كان الليث يدرك، من خلال تقارير طبية احترافية، أن أجل صديقه قد اقترب، وأنه قد لا يمضي العام الحالي إلا وقد فارق الحياة، خاصة أن نضال نشر رسالة مطلع العام الحالي طلب فيها الموت من الله تعالى . . لذا، ورغم جهوده ليعدّ شخصية أخرى غير ناطقة له في مسلسله الجديد “سنعود بعد قليل”، إلا أنه كان يصطدم بالواقع الذي يستحيل فيه، طبياً على الأقل، أن ينجز الصديق المريض شيئاً . . فامتنع عن إشراكه في ذلك المسلسل .

 

ومضت الأيام، حتى وصلنا إلى الثاني من رمضان الحالي، وزفّ الخبر الصاعق للأوساط الفنية والأدبية، بأن رحل نضال سيجري في ريعان شبابه إذ لم يتجاوز الثامنة والأربعين .

 

طوال الأزمة السورية المندلعة منذ سنتين، ومن مكان استشفائه في بيروت، أبرق نضال سيجري عشرات الرسائل للسوريين يدعو فيها كل الأطراف إلى الجلوس على طاولة حوار، دون أي انحياز منه لأي طرف، الأمر الذي جعله عرضة للانتقاد من أنصار طرفي المعادلة . فالموالون عبروا عن سخطهم للغته الوسطية وهو الذي حظي طوال فترة مرضه برعاية رسمية خاصة، بينما رأى المعارضون أن فناناً كوميدياً تناول آلام الناس وأوجاعهم على الشاشة، أجدر به أن يكون في صف المعارضة ضد السلطة .

 

وبعد كل جملة انتقادات له، كان يخرج ببيان جديد يعبر فيه عن حبه للجمهورين معاً، وعن ثقته بنوايا كل منهما، موضحاً لهما أسبابه التي دعته لاستخدام هذه اللغة التي رفض كثيراً تسميتها بالوسطية إذ اعتبرها، هو، وطنية جامعة، وهادفة إلى تحقيق الوحدة الوطنية .

 

في بداية الأزمة ورغم مرضه الذي كان يشتد عليه يوماً إثر يوم، وكان لا يزال يعيش حياته الاجتماعية والعملية، خرج نضال ومعه صديقه وشريكه في رائعة “ضيعة ضايعة” إلى شوارع مدينة اللاذقية التي كانت تصخب بالمظاهرات المناوئة للنظام، فالتقى جموعاً غفيرة من الناس، واستمع إلى مطالبهم واعداً إياهم بإيصالها إلى القيادة في أول فرصة تسنح له . واللافت أن المتظاهرين الذين لم يكونوا في تلك الفترة مستعدين للتعامل مع أي حالة توسطية بينهم وبين السلطة، وكانوا يثورون في وجه أي شخصية تقترب منهم لتناقشهم بأمور كهذه، بل وهناك مشاهير في سوريا تعرضوا للضرب . . تعاملوا مع نضال سيجري ومع زميله باسم ياخور بشكل جد مختلف، واستغرق الحوار بينهما مع الناس الثائرة ثلاث ساعات متتالية كان نضال يسجل فيها مطالب العامة قيل إن بعضها تمت الاستجابة لها، خاصة في ما يتعلق بإخلاء سبيل موقوفين .

 

في الثالث من رمضان، كانت مدينة اللاذقية، مسقط رأس الفنان الراحل، على موعد غير اعتيادي، فهي التي اعتادت يومياً تشييع ثلة من أبنائها الذين يسقطون في الأحداث، لكن حدث الثالث من رمضان كان مغايراً، فهو تشييع غير اعتيادي لفنان استثنائي، طلب في وصيته أن يسجى جثمانه على خشبة المسرح القومي لتوديعها، فاستغلها الزملاء والأصدقاء ليكون حفلاً تأبينياً لتشييعه، بمشاركة رسمية، قبل أن يتوجه الجثمان والمشيعون إلى جامع ياسين بمشروع الأوقاف حيث صلي على روحه الطاهرة قبل أن يوارى الثرى في مقبرة الروضة بالمدينة .

 

بكاه رفاق الدرب والأصدقاء والمعارف والمثقفون والأدباء والكتاب والصحفيون، وبكته شوارع المدينة، وندبته الأخوات والرفيقات والزوجة والمعجبات وكثيرات .

 

نضال سيجري الذي ولد في مدينة اللاذقية الساحلية في العام ،1965 تخرج في المعهد العالي للفنون المسرحية بدمشق، اعتبر في الأوساط الفنية والثقافية واحداً من أبرز الفنانين المثقفين .