2012/07/04
علي وجيه
بات من المفروغ منه أنّ الجماهير العربية لم تعد تسمح ببقاء الحال على ما هو عليه. الثورات المشرّفة التي قامت وتقوم من أجل الديمقراطية والحرية والعدالة الاجتماعية لم تقف عند حد السياسة كما رأينا في تونس ومصر، بل تعدّتها إلى الإعلام والثقافة وبالضرورة الفن والدراما. ممثلون انتقدوا الثورة فخسروا أسهمهم لدى الشارع المصري والعربي، وبعضهم ما زال مصير مسلسلاتهم للموسم القادم مجهولاً حتى الآن. محطات الكليبات الهابطة عرضت لأول مرة في تاريخها أغان وطنية قديمة ومسجّلة خصيصاً للثورة. قيادات نقابية فنية قبعت في منازلها تحت وطأة بيانات المثقفين والفنانين الذين طالبوا بحريات مفتوحة. إذاً، الدراما العربية، ومنها السورية، ليست معزولة عن الحراك الشعبي المبهج الذي تشهده المنطقة.
إذا كانت الحرية إحدى أهم مطالب الجمهور، فلا شك أنّ الدراما لها وجعها الصريح هنا. البعض راح يناقش «الجرأة» في الموسم الفائت بشكل خاص دون أن يلحظ أنّ هذه «الجرأة»، وأستخدم المصطلح هنا تجاوزاً، اقتصرت على لقطة هنا ومظهر ممثلة هناك. قشور خارجية تشبّث بها هؤلاء دون إدراك أنّ الجرأة الحقيقية تكمن في التعمّق في البنية السياسية والاجتماعية وخلخلتها ودراسة تداخل السلطة والاقتصاد وتوضيح هيكلية الفساد، وتأثير كل ذلك على المواطن السوري البسيط. كيف يواكب هذا المواطن التحوّلات الكبيرة التي يشهدها المجتمع السوري؟ كيف يتعاطى مع الوضع السياسي؟ كيف يتأقلم مع التحوّل من الاشتراكية إلى ما يسمّى بـ «اقتصاد السوق الاجتماعي»؟
ثلاثة عوامل متداخلة تلعب دوراً هاماً في هذه النقطة: الرقابة المجتمعية والرقابة الرسمية والنص الدرامي. التعامل مع الرقابة المجتمعية يبقى ضمن الإطار المحسوب، فلا أحد يرغب بالاصطدام مع جمهوره وصدمه، على الأقل في عمل تلفزيوني يدخل كل المنازل. يبقى الحرص على مواكبة الجمهور تدريجياً وصولاً نحو التقبّل والتأثّر بوجهات النظر التنويرية التي يُفترَض أن يحملها العمل الدرامي. النص والرقابة متلازمان عادةً، وكون الرقابة السورية ما زالت تعمل وفق وعي الرقيب الشخصي ومزاجيته وشجاعته، فمردودها سيبقى متذبذباً دون معايير محددة.
ما فعلته رقابة التلفزيون العام الفائت مع مسلسل مهم وجاد هو «لعنة الطين» لا يمكن وصفه بأقل من التدخل المؤذي جداً لبنية العمل وصنّاعه وجمهوره، «الرقابة الورقية حذفت 136 مشهداً، ورقابة التصدير حذفت أكثر من 20 مشهداً، ورقابة العرض السوري قدّمت نكات مضحكة في العرض أساءت للعمل» يقول مؤلف العمل سامر رضوان في تصريح لموقع «بوسطة» الإلكتروني.
بالمقابل، رقابة التلفزيون نفسها هي التي أجازت فيلم «دمشق مع حبّي» بنصّه الجريء الذي تطرّق ليهود دمشق وانتمائهم الحقيقي. يقول مؤلف ومخرج الفيلم محمد عبد العزيز في حوار مع موقع «بوسطة» الإلكتروني: «الرقابة في الهيئة العامة للإذاعة والتلفزيون التي قرأت النص يُرفع لها القبعة حقيقةً. كثير من الأصدقاء كانوا يشككون بمرور الفيلم رقابياً، إلا أنّ التقرير الرقابي الذي صدر يدلّ على تفهم فكري ودرامي عميق، ويثبت أنّ الرقيب السوري يمتلك رؤية فكرية وهامشاً واسعاً».
إذاً، حالة تخبّط واضحة يعيشها الرقيب السوري في ظل غياب معايير علمية واضحة، والجمهور بات يستحق أعمالاً حقيقية تواكب تطلعاته وهامش التعبير الواسع في العالم. الحرية التي يطالب بها الثوّار لها حضورها المماثل في الدراما بإلزام الرقابة توسيع الهامش ورفع السقف كما يجب.
هل العدالة حاضرة في المشهد الدرامي السوري؟ هل يحصل الموهوب على فرصته ويتقاضى الأجر الذي يستحقه؟ المطّلع على الكواليس يعلم أنّ العلاقات والمحسوبيات تشكّل عنصراً أساسياً في مقادير الطبخة الدرامية، ومن البديهي أنّ هذا يتم على حساب الموهبة والمعايير السليمة. بعض النصوص تُباع بالسمسرة و«المعية» في حين يجاهد كتّاب موهوبون لتسويق نصوصهم، ناهيك عن الإجحاف الهائل الذي يلحق بأغلب النصوص المباعة من تعديل دون الرجوع إلى المؤلف، وما يسمّى بالمعالجة الدرامية لنص منجز، والاستغلال المادي خصوصاً عند شراء النص الأول لكاتب جديد. بالمقابل، يمكن لأحدهم (أو إحداهنّ) أن يسرق مشاهد بالحرف من أعمال عالمية ويضمّها لنصه الدرامي وحتى أن يكرّم رسمياً وإعلامياً دون أن يُحاسَب أحد على فضيحة كهذه. كل ذلك في ظل غياب نقابة لكتّاب السيناريو تحفظ حقوقهم وتكون مرجعية حقيقية وفاعلة من أجلهم.
أين العدالة في تخصيص قسم من ميزانية الأجور في المسلسل لنجم بعينه وتوزيع القسم الآخر على بقية الممثلين؟ هذا ليس سؤالاً عبثياً، بل مأخوذاً عن قصة حقيقية.
تتخرّج دفعة المعهد العالي للفنون المسرحية فيعمل منها فعلياً ما لا يزيد على أصابع اليد الواحدة، في حين يعتاش البقية على فتات المشاهد ودوبلاج الـ 200 ليرة للمشهد الواحد. لا بدّ من الحديث أيضاً عن الجدل الكبير الذي يدور دائماً حول آلية القبول في المعهد العالي، ولجنة الفحص التي استغرقت عامين حتى اكتشفت أنّ باسل خياط موهوب مثلاً. ما يثير الغيظ أكثر هو الإهمال الصارخ الذي تتعرض له معاهد التمثيل الخاصة والتي يضمّ بعضها كوادر أكاديمية مشهوداً لها. أمل عمران، نائلة الأطرش، مي سكاف، رأفت الزاقوت، مازن منى وغيرهم، أسماء مهمة درّست في المعاهد الخاصة وخرّجت طلاباً يمتاز بعضهم بموهبة عالية، لجؤوا لهذه المعاهد بعد رفضهم في المعهد العالي ليلاقوا مصير الإهمال والتجاهل وعدم الاعتراف بشهاداتهم، وهو عكس مبدأ الدولة في دعم وتمكين التعليم الأكاديمي الخاص والاعتراف بطلابه وخريجيه.
هذا كله يتعارض مع مبادئ العدالة والمساواة والتوزيع العادل للثروة التي تطالب بها جماهير الثورات العربية.
الجماهير باتت ترفض التوريث السياسي، ماذا عن التوريث الفني؟ ابن الممثل النجم يريد أن يصبح ممثلاً نجماً أيضاً. ابن المخرج يقرر أن يتبع خطا والده. ابن الأخ أو ابن الأخت يقرر أن يصبح موهوباً وكاتباً مثل قريبه. كل ذلك بغض النظر عن وجود الموهبة من عدمه وتوافر القدرة والجلَد اللازمين لذلك.
اعتادت أمريكا التلويح بقطع المعونة الخارجية عن مصر عند حصول أي خلاف بين الطرفين، وهو السلاح الذي هدّدت به أثناء الثورة المصرية أيضاً. هنا السؤال الملح: ماذا لو قُطعَت المعونة الخارجية «الخليجية» عن الدراما السورية؟ ألم تتوقف التجربة السينمائية المهمة لهيثم حقي بسبب توقف «أوربت» السعودية عن التمويل؟ ألا تقوم بعض المحطات والشركات الخليجية بتفصيل المسلسلات وفرض الأفكار المخرّبة للذائقة وتحديد الممثلين وغير ذلك كشرط لشراء العمل؟
السرطان الخبيث المسمّى بالـ «دوبلاج» لا يختلف كثيراً عن الأمراض التي تنخر جسم المجتمع مهددةً بانهياره كالفقر والبطالة وغيرها. وحش قبيح يتآزر مع جراثيم انتهازية خبيثة مثل «مسلسلات تحت الطلب» و«أعمال تفريخ الأجزاء واستحلاب النجاح» لتهديد مشهد كامل بالانهيار وذائقة جمعية بالانحدار والتشوّه.
الجمهور وصفه أيمن رضا في حوار مؤخراً مع مجلة «شبابلك» الخاصة بأنّه « لم يعد يقول (لا)، حتى لا يُسأل (ليش). يقول (حلو) للمسلسلات التركية والكليبات و(باب الحارة) وغيرها، وبالتالي تعوّد ألا يقول (لا)، وهذه مشكلة كبيرة». الوضع مختلف الآن. الجمهور أثبت أنّه لا يمكن أن يسكت عن الخطأ، وهو مستعد للثورة في سبيل ذلك.
الجمهور مطالب بأن يقول «لا» كبيرة في وجه كل ما لا يعنيه ولا يعبّر عنه. «الجمهور عاوز كده» بالمعنى الإيجابي معادل موضوعي مهم لـ «الشعب يريد...». النقاد الحقيقيون مسؤولون عن الوقوف في وجه الظواهر السلبية التي تحتاج إلى حنكة متخصصة. بيانات متتالية يجب أن تقول بصوت واضح: «لا» للمحسوبيات والواسطة والتوزيع غير العادل للأدوار والأجور. «لا» لبطالة الموهوبين وفقر خريجي المعاهد الرسمية والخاصة منهم. «لا» لعدم الاعتراف بمعاهد التمثيل الخاصة التي تعمل بشكل أكاديمي سليم. «لا» لصحفيي العلاقات العامة وأشباه النقاد والمدّعين إعلامياً. «لا» لثقافة التجهيل وشبكات التلفزيون المخرّبة للذائقة. «لا» لمسلسلات التفصيل واستحلاب النجاح. «لا» لدبلجة وتعريب وإعداد المسلسلات التركية والمكسيكية والإيرانية والأمريكية والفنزويلية والموزمبيقية والمريخية. «لا» لجرائم دبلجة «العرّاب» و«القلب الشجاع» وتشويه التراث العالمي الذي لا يقدّر بثمن. «لا» لإنتاج أفلام نوستالجية هزيلة لا علاقة لها بالراهن واليومي والمعاش. «لا» لعمل أفلام لا تضيف شيئاً عند المشاركة باسم سورية في المهرجانات السينمائية أو عند عرضها جماهيرياً. «لا» للتكليف الرسمي في الفن ومبدأ الفنان الموظف. «لا» لصرف الملايين على مسرحيات لا تسمن ولا تغني من جوع. «لا» لاكتفاء نقابة الفنانين بدور جابي الضرائب...
إنّها «لا» ثورية، يجب أن تصدر عن جماهير واعية ونقاد أحياء لرفض كل ما يسيء إلى المشروع الدرامي الوطني الذي لا يمكن أن يكون إلا تنويرياً إصلاحياً.. وبامتياز.