2012/07/04
عهـد صبيحـة/ تشرين
يُحسَب للدراما التلفزيونية السورية، خصوصاً في مسلسلات ثمانينيات القرن الماضي، أنها سبقت غيرها في العالم العربي، باستثناء المصرية، إلى خروج المرأة من دائرة صورة (الأم-الزوجة)، الصورة التي سيطرت على تفاصيل قصص المرأة في الدراما على مدى أكثر من عقدين سابقين. لكن هذا التطور في طرح الشخصية ظلّ حبيسَ المباشرة في الطرح، ولم يخدم الفعلُ الدرامي من أجل إيضاح مطالب المساواة في الرؤية بين المرأة والرجل، بل كان مجرّدَ حوارات وخطابات على لسان بطلاتها تنادي بوضع جديد للمرأة.
وفي ضوء فورة الإنتاج الدرامي مع تسعينيات القرن الماضي، لم تستطع الدراما إخراج المرأة من إطار دورها السائر في فلك الرجل تابعاً وليس محركاً، ولم تكن الدراما التلفزيونية بعيدة، بذلك، عن التصور الاجتماعي السائد، بل كانت، في معظم الأحيان، صورة مثالية عن هذا الواقع.
فصورة المرأة، في درامانا، عكست التناقض الموجود داخل تيارات المجتمع خصوصاً وسط تغيرات إعلامية عالمية وانفتاح على ثقافات وحضارات ونظريات جديدة على عالمنا تحدد شكل العلاقة بين الجنسين، وبقي المجتمع محافظاً على ازدواجية تصوره لحالة المرأة. بدا هذا التناقض واضحاً من خلال التباين الفاضح لصورة المرأة بين مسلسلات عدة في الدراما السورية. وَصَل هذا التباين إلى درجة الصراع العلني بين شعبية المسلسلات والتي كان الغالب فيها –بالطبع- المسلسلات التي قدمت الصورة التقليدية للمرأة الخانعة لسلطة الرجال. هذه المسلسلات حققت بما لا يقبل الرهان الشعبيةَ الأعظم في الشارع العربي، الأمر الذي يؤكد هيمنة نمط التفكير الذكوري السلطوي في شارع لا يزال جمهورُه، المراهقُ دائماً والخارج من طفولة يملؤها (عنف مسلسلات الأطفال والعنف التربوي الذكوري)، ميالاً إلى العنف بأشكاله ومن ضمنه العنف ضد المرأة.
وإن كنت لا أعتبر مسلسلات مثل «رجال تحت الطربوش» و«غزلان في غابة الذئاب» و«الانتظار» و«زمن العار» و«شتاء ساخن»، على سبيل المثال لا الحصر، نماذجَ سلبية للدراما السورية لأنها، بشكل أو بآخر، عرّت مجتمعنا بتقديمها صورة المرأة الضعيفة المستجدية لعطف الرجل والتائقة في نفس الوقت للتحرر من ظلمه، وهي بذلك تشرّح الواقع وتساهم مع غيرها من الوسائل الإعلامية في تمهيد الطريق إلى دراما جديدة، لكن يؤخذ عليها أنها لم تنتصر في النهاية لفكرة التشابه بين المرأة والرجل، وبقيت الفكرة الأساسية السائدة هي الاختلاف بين الجنسين (الجندر) ولم يقترب أي مسلسل من ثيمة الاتفاق على عدم اختلاف الجنسين وتشابههما التام في الوظائف الفيزيولوجية أو النفسية. وفي هذا الشأن لم تخرج هذه المسلسلات (مع غيرها من المسلسلات تقليدية النظرة) عن المنطق الغالب في الرؤية الإعلامية والاجتماعية والثقافية عند معظم الذكور في إصرارهم على هذا الاختلاف.
النموذج المهم الآخر هو لمسلسلات مثل «باب الحارة» و«أبو جانتي»، على سبيل المثال لا الحصر، وفيها حقق الرجل مراده في ممارسة العنف بأشكاله على المرأة القانعة بهذا الدور الذي فرضته، برأيها أولاً، التشريعات ومن ثم العادات والتقاليد، وكرّس القناعة الغبية وغير المنطقية للمرأة بهذا الدور.
برز مسلسل «باب الحارة» كأنموذج مثالي لصورة المرأة التقليدية في الدراما العربية وفي ذهنية الرجل الشرقي، واستطاعت نساء المسلسل منافسة أقوى المسلسلات العربية في تقديم فروض الولاء والطاعة للرجل القادم من الشرق! وتلك النسوة قدمن الرؤية المثالية للمرأة في خيال الرجل العربي؛ الجمال الخارجي، الطاعة العمياء للرجل (أب، أخ، زوج)، الخنوع التام للعادات والتقاليد. ولم تفلح محاولة الكاتب الفاشلة في إصباغ صفة (التاريخ) على حكايات تلك النسوة في إقناع المتفرج الواعي بحقيقة الأفعال التي كانت تقوم بها نساء تلك الفترة الزمنية، والتي جاءت غريبة وشاذة عن معرفتنا للتاريخ وخصوصاً في مدينة دمشق التي لم يغفل التاريخ عن كشف تفاصيل الحياة اليومية لنساء دمشق في تلك الحقبة ودورهم النهضوي والرائد. لكن المسلسل حقق شعبية كاسحة لم تسبقه إليها أية مسلسلات أخرى لنفس السبب الذي ذكرته مدعوماً طبعاً من مؤسسة إعلامية ضخمة تدرك كنهَ النظرة الخاصة للمرأة وتناسبَ هذه النظرة مع خيالات رجالنا المهيمنين بطبيعة الحال على المؤسسة الإعلامية العربية.
في الجانب الآخر، وإذا نظرنا إلى الربع المليء من الكأس، حاولت بضعة مسلسلات مثل «ليس سراباً» و«تخت شرقي» و«عن الخوف والعزلة» و«يوم ممطر آخر»، على سبيل المثال لا الحصر، إظهارَ دور المرأة الحقيقي، والدخولَ في جوهر علاقتها مع الرجل، والإضاءةَ على مكامن الخلل في النظام الاجتماعي ازدواجي النظرة، ولم تتبنى هذه المسلسلات الطرح الخطابي المباشر لمشكلة المرأة من خلال حوارات أو خطابات مباشرة، بل استفادت من الفعل الدرامي للحبكة من أجل خدمة هذا التوجه، وقدمت قصصاً وشخصيات جديدة كانت المرأة فيها إيجابية ومتحررة وثورية وفاعلة تمارس كينونتها الإنسانية من دون تسلط ذكوري. بهذا تخطت هذه المسلسلات حواجز الخوف والصمت والانتظار السائدة في المسلسلات الأخرى.
لم يكتف مسلسل «ليس سراباً» بتقديم حالات درامية مهمة للمرأة في مجتمعنا بل عرض لنماذج جديدة وجريئة تماماً على مستوى الطرح، ومنها، للمثال، شخصية (أم وضاح) التي أدت دورها السيدة أمانة والي، فلأول مرة في الدراما العربية تخرج الأم من دائرة (الشخصية المثالية المتفانية في خدمة عائلتها)، الشخصية المكرَّسة في كل المسلسلات السابقة، فقدَّم الأمَّ التي خانت ميثاق الزواج، وبذلك أغنى المسلسل الدراما العربية بشخصية جديدة، كما طرح مشكلة جريمة الشرف بشكل جديد ودعا إلى مراجعتها بعيداً عن الصورة المعروفة للمرأة الخاطئة في الدراما التقليدية.
في «تخت شرقي» تخرج الكاتبة عن الشكل التقليدي في طرح العلاقة بين المرأة والرجل في المجتمع الشرقي من خلال قصص لنساء ظهرن كلهن تقريباً بشكل مخالف للمألوف عنهن في درامانا؛ راغبات، حالمات، شبقات، متحررات أحياناً من إرث تخلف حملنه على مدى السنين. واستطاع المسلسل أن يلج أعماق ما جرأ قبله أي مسلسل حتى على محاذاتها، وأكد على فكرة أن المرأة قادرة بطبيعتها الإنسانية على الحب والقرار والاختيار في شأن من تحب بدون وصاية أو تدخل، وذلك بحكم تميزها واستقلالها الجسدي والعاطفي والنفسي.
زبدة القول، حاولت هذه المسلسلات الخروج عن المألوف بالنسبة لدور المرأة في الدراما، لكنها اصطدمت بحاجزين كفيلين بإجهاض توجهها؛ الأول، حاجز المجتمع العربي نفسه، الذي لا يزال مرتبطاً بإرثه العثماني وذهنية تفكيره الذكورية السلطوية التي ما فتئت تقاوم كل جديد وكل تحدٍ لعنصريته تجاه الرجل، ويبدو هذا واضحاً من شعبية مسلسل «باب الحارة»، ومن الجدل الاجتماعي الذي أعقب مسلسلاً مثل «تخت شرقي» واعتراض الجمهور على الجرأة المطروحة فيه باعتبارها جرأة غير مبررة وجارحة وصادمة وأحياناً وقحة، والحاجز الثاني، حاجز الإعلام العربي ومعه المؤسسات الفنية والإعلامية الكبرى التي تكرس في توجهها، وحرصاً على مصالحها، ربما، الصورة التقليدية للمرأة الجميلة المثيرة المطيعة، ويبدو هذا واضحاً في أجزاء باب الحارة الستة التي تحققت بدعم من هذه المؤسسات الفنية وتحت رعاية الإعلام.