2012/07/04
تأليف: أي. أ سكوت /نيويورك تايمز
ترجمة عهـد صبيحة
إحدى المفاجآت القليلة التي حدثت في (الغولدن غلوب)، منذ أسابيع، كانت الجائزة المقدمة إلى المخرج الفرنسي أولفيير أساياس عن الفيلم التلفزيوني «Carlos» الذي يعيد -عبر أكثر من خمس ساعات- تركيب حياة وعمل الإرهابي رديء السمعة في عقدي سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي كارلوس، أو كما يُطلق عليه «ابن آوى». مثّلت هذه الجائزة درجة عالية من الكونيّة بالنسبة لحدث محدود يمكن توقعه؛ إحدى عشرة لغة محكية على الشاشة، وعشرات مواقع التصوير بين أوروبة والشرق الأوسط، وفريق ممثلين بلغات مختلفة كان في مقدمتهم النجم الفنزويلي إدغار راميريز الذي يمتلك إمكانية أن يصبح رمزاً جنسياً عالمياً. حقاً.. ماذا تبغون أكثر من ذلك في فيلم أجنبي؟!
باستثناء تلك الجائزة، لم يكن هذا الفيلم قد رشح أصلاً لجوائز (الغولدن غلوب) عن صنفه، (فاز بجائزة الفيلم الأجنبي «In a Better World» من الدانمارك)، فقد صُنـِع الفيلم من أجل عرضٍ أول خاص على التلفزيون الفرنسي، أي أنه صُنـِع من أجل حقيقة جعلته أيضاً غير جدير بالنقاش في أمر ترشيحه أصلاً –كفيلم أجنبي أو تحت أي تصنيف من أصناف الأفلام- من قبل أكاديمية فنون وعلوم السينما التي أعلنت ترشيحات الأوسكار قبل أسابيع، ونصر السيد أساياس بحصانه الأسود في (الغولدن غلوب) كان في أفضل سلسلة تلفزيونية قصيرة أو فيلم معد للتلفزيون، إنه أمر عادل بما يكفي إذا نظرنا إلى أصل الفيلم. مرة أخرى طرق "كارلوس" باب المشاهدين الأمريكيين بالطريقة التي تفعلها، بشكل متزايد، الأفلام الأجنبية هذه الأيام؛ العرض في بضعة صالات أمريكية، وعلى الكيبل، وضمن طلبات الفيديو، لذلك يبدو إقصاؤه عن ترشيحات الأوسكار اعتباطياً بشكل ما.
لكن الأمر هو كذلك فعلاً بالنسبة لكل شيء متعلق بالطريقة التي تتعامل بها الأكاديمية مع الأفلام من بقية العالم، عملية فرز دقيقة وغامضة تخفض آلاف الترشيحات إلى خمسة. هذا العام الترشيحات هي لأفلام «Dogtooth» من اليونان و«Incendies» من كندا و«Biutiful» من المكسيك و«Outside the Law» من الجزائر و«In a Better World» الذي يعتبر الأوفر حظاً إذا اعتبرنا جوائز (الغلوب) فألاً عليه.
عُرِض «Dogtooth» وانتهى عرضه في بضعة صالات أمريكية الربيعَ الماضي، كما عُرِض «Outside the Law» عرضاً سريعاً نهاية كانون الثاني (وربما يعود في وقت قريب). فقط «Biutiful»، الذي يمثل فيه النجم العالمي خافير بارديم والذي رشح لأفضل ممثل دور أول في الأوسكار، مرغوب عرضه دائماً (وربما يُعرَض الآن في صالة قريبة منك). أما البقية فستطلق عروضها أواخر الشتاء أو مع بداية الربيع، طبعاً على أمل إدراك ضربة في ريع شباك التذاكر، لكن هذه الأفلام لم تخضع لسباق ما قبل الترشيح المعتاد-فرز أصوات الآراء النقدية وثقل الرأي الشعبي، الأمر الذي جعل عملية انتقاء مثل هذه الأفلام سليماً –من حيث المبدأ- لكنه، فعلياً، أضاف نوعاً من التشويش تجاهها.
للمثال، تجاهلت الأكاديمية فيلم «Of Gods and Men»، دراما زافيير بيوفوا المثيرة للمشاعر حول مجموعة من الرهبان الفرنسيين يحاولون النجاة وتطبيق معتقداتهم في الجزائر خلال زمن الرعب والحرب الأهلية. طبعاً دائماً ما كانت الأفلام القيمة تتصدر الترشيحات، لكن مثل هذا الإهمال المحير والنزوي يحدث غالباً بحيث يمكن أن ننظر إليه كتذكير سنوي بالتهميش المنظم لمؤسسة السينما الأمريكية وسوء فهمها لعالم السينما.
لسبب ما، تصرّ الأكاديمية على قاعدة أن حصة الدولة من الترشيح للأوسكار هي فيلم واحد، الأمر الذي يجعل جزءاً من عملية صنع القرار الذي تتحكم به صناعات السينما، على الأقل، فاسداً أو خاضعاً لأجندة موجهة كما هو الحال عندنا، فلماذا يعتبر «Of Gods and Men» المرشحَ الوحيد لفرنسة، وعلى أية حال ما الذي يحدد جنسية أي فيلم؟، ولماذا فيلم رشيد بوشارب «Outside the Law» هو فيلم جزائري أكثر منه فيلم فرنسي، بالنظر إلى أن مخرجه يحمل الجنسية الفرنسية وإلى أنه صنع بتمويل أغلبه فرنسي وداخل دولة تتميز بقوانين شاملة تحمي صناعة الإنتاج السينمائي؟ وما الذي يجعل «Biutiful»، المصوَّر في برشلونة بممثلين إسبانيين، فيلماً مكسيكياً؟
ليست فكرتي هنا أن أنتقد الأكاديمية، ولا أن أحيّر القراء بذكري لسيل من الأفلام التي، ربما، لم يسمعوا عنها وعلى الأرجح لا يملكون فرصة مشاهدتها. شكواي حقاً، هي من اللاعقلانية الغريبة والمتنامية لعالم السينما في الثقافة السينمائية الأمريكية والتي تساعد الأكاديمية في تخليدها.
بالتأكيد هنالك أمثلة لأفلام الأجنبية تعود إلى العقد الأخير، رُشحت أم لم تُرشح، حققت مقياساً مقبولاً في الشعبية: «Crouching Tiger» و«Hidden Dragon» و«Pan's Labyrinth» و«The Lives of Others» و«The Girl With the Dragon Tattoo»، لكن هذه النجاحات تبدو متواضعة أكثر فأكثر، ورقم المليون دولار في ريع شباك تذاكر أمريكا لم تصل إليه حتى تلك الأفلام التي حازت جوائز في «كان» أو تلك الأفلام الرائدة التي حققها مخرجون ذوو بصمة خاصة معترف بها عالمياً، معظم الأسماء التي عملت هذه الأفلام بقيت مجهولة حتى لهواة السينما، وبينما اتّحدت الموضة والألعاب وموسيقى البوب ووسائل التواصل الاجتماعية، بين أشياء أخرى، من أجل تقليص مساحة العالم وردم الحفر في الثقافة والتذوق في العالم، فإن مشاهدي أمريكا يبدون متمسكين بمفاهيم حذرة ومنعزلة لوسائل الترفيه.
تعززُ جوائز الأوسكار هذا الأمر كثيراً متجاهلة أفلام مقبولة ومسلية من بلدان أخرى، وكثيراً ما تركز على قائمة ترشيحات نهائية تبدو عشوائية. كل عام يدير العالم نظره باتجاه هوليود، وتبقى هوليود محافظة على تقليد قديم، مكان مرحب به بشكل ملحوظ للمواهب القادمة من أماكن بعيدة، كانت هناك دائماً غرفة (تضج بالعمل والمال وحتى تحديد مقاييس العظمة) للمثلين البريطانيين والأستراليين، ولرموز الجنس العابرة للقارات، وللمخرجين المهاجرين الباحثين عن الحرية والثروة.
هذا العام فاجأنا ترشيح السيد بارديم عن أفضل ممثل دور أول، وهو كان نال أوسكار أفضل ممثل دور مساعد في الفيلم الناطق بالانكليزية عام 2008 «No Country for Old Men»، كما مُنح غيره من الفنانين غير الناطقين بالانكليزية، في مناسبات عدة، فرصة الإضاءة عليهم، وفاز بيدرو ألمودوفار بأوسكار أفضل سيناريو أصلي عام 2003، وماريون كوتيلارد نالت شرف أحسن ممثلة بعده بخمس سنوات عن دورها إيديث بياف في «La Vie en Rose»، كذلك نالت فرصة لعب دور الحبيبة الغريبة فاغرة العينين في قصة حب أساسية أمام كلٍ من حوني ديب في «Public Enemies» وليوناردو دي كابريو في «Inception» . نستطيع القول إن مقياس شهية هوليوود، وقدرتها منقطعة النظير على التقاط الطموح والتذوق الفني من كل أنحاء العالم، هو جزء من أسطورتها وعظمتها.
لكنها أيضاً تلقى بظلال قاتمة على باقي العالم الذي يصارع من أجل إظهار نفسه. كانت هنالك في الماضي (بشكل ملحوظ في فرنسة في ثمانينيات وبداية تسعينيات القرن الماضي) احتجاجات ضد إمبريالية الثقافة الأمريكية، لكن يبدو أن هذا تضاءل مؤخراً، وسواء كان ذلك راجع إلى أن هيمنة أمريكا الإمبريالية غمرت حتى إمكانيات المقاومة الكلامية، أو بالعكس، فليست الإمبراطورية عظيمة كما كانت واهتمامي هنا أكبر بالحمائية الثقافية- الدافع ليس احتلال باقي العالم لكن هو ضبطه أكثر.
لا أريد أن أعفي المشاهدين الأمريكيين من التوبيخ لفشلهم في شراء تذاكر الأفلام الأجنبية فاللامبالاة الشعبية أو التجاهل للأفلام الأجنبية التي تعرض خارج دائرة هوليود أو أقاليمها المستقلة هو ما جعل هذه الأفلام غير منتشرة بشكل واسع، لذلك اختفت الأفلام داخل حلقة مفرغة تُفرَض فيها وتؤكد الحالة التهميشية.
ولكن على مشارف تيار الثقافة التجاري، وفي بيوتات الفن العظيمة، وفي منظور ما يمكن أن تعرضه شبكات الكيبل، ربما يكون هناك تنوع وحيوية أكثر مما قبل. نعم، إنه أمر شائع في بعض الحلقات رثاء تلك الأيام الخوالي حيث كانت أسماء المخرجين والنجوم الأجانب –معظمهم من أوروبة واليابان- مألوفةً في نفس المنازل حيث تقتنى كتب الطبخ الفرنسي والايطالي والآسيوي الأكثر مبيعاً، ولكن من حيث الحجم والتميز، تصنف السنوات الخمس عشرة الأخيرة بالعصر الذهبي، وما تغير هو حس الطابع الثقافي والانتشار الاجتماعي.
ربما يكون هذا نفسه نتاج الوفرة؛ تقنيات وتقاليد جديدة تنتشر وتتلاقح بسرعة حتى أن المقيم الدائم في حلقات السينما الدولية لن يستطيع اللحاق بها على الإطلاق، وقائمة السينما الوطنية للمشاهدة تبدو متنامية كل عام، لذلك حتى هذا الإحساس الخارجي بحالة السينما للأشياء يمكن أن يبدو متطلباً وعياً لحظياً لما يحصل في كورية الجنوبية وصربيا وكازاخستان وجنوب افريقية وتايلاند وعشرات البلدان الأخرى. الاتجاهات الجديدة في الإبداع تنمو في أوروبة الشرقية وجنوب شرق آسيا وأمريكا اللاتينية، وربما تشهد روسيا أقوى موجة صناعة سينما منذ الستينيات، كما أن دولاً مثل فرنسة وايطاليا ألمانيا ترفض أن تخضع للتجاهل.
وهنالك أيضاً اليونان، استرجاعك الضبابي لزوربا أو ميلينا ميركوري لن يكون مساعداً كثيراً من أجل بناء حس بفيلم غيورغوس لاثيموس «Dogtooth»، التصوير الأنيق المرح والمروع في آن للقصة الرمزية عن شيء عجيب في الطبيعة البشرية. (اللغة؟ السلطة؟ الجنس؟ العائلة؟). السيد لاثيموس جزء من جيل مخرجين يونانيين تقوم أعمالهم على مهاجمة المعتقدات بشكل جريء رسمياً وأحياناً جارحة، هؤلاء المخرجين، بالمقابل، جزء من شبكة حرة منتشرة في معظم أنحاء العالم متصلة بوعد انفجار المهرجانات وتحدي جني المال في مناخ عالمي من العوائق الاقتصادية.
ستلاحظ الأكاديمية أحياناً هذا الدفق من الأفلام –وغالباً لن تفعل- لكن يبقى هناك عالم من الأفلام في الخارج ينتظر اكتشافه!
ملاحظة: المقال منشور في صحيفة شرفات الشام- العدد 96