2012/07/04
مصطفى علوش - تشرين
تقول الممثلة البريطانية جوليا دينش (يمكن أن يقدم العرض المسرحي في أية قرية صغيرة في مجاهل إفريقيا،
أو قريباً من الجبال في أرمينيا، أو حتى على جزيرة صغيرة في المحيط الهادي، فهو لايحتاج سوى لمكان وجمهور، وهو القادر على جعلنا
نبتسم، وجعلنا نبكي، ولكن لابد من أن يحفز فينا ملكة التفكير والتأمل).
ويمكن أن نضيف لكلام هذه المبدعة البريطانية: (ويمكن أن يقدم المسرح في غرفة صغيرة في حي العدوي في دمشق)، وهذا مافعله
الأخوان ملص عندما عرضا لجمهور لايزيد عن 15 شخصاً حمل عنوان (كل عار وأنت بخير
(كل عار وأنت بخير) عنوان مثير ومستفز، ويبدو أن الأخوين أرادا منذ البداية إطلاق النار على الجمهور الذي جاء إلى هذه الغرفة حاملاً ضيقه
وحزنه وفرحه!
إطلاق نار مسرحي يبعث على التفكير والتأمل، كما يبعث على البكاء والضحك حسب جوليا دينش، ويبدو أن المسدس الذي حمله العسكري
نزار مهدداً صديقه الشاعر يوسف لإجباره على التحدث لحبيبته (ميس)، كان موجهاً أيضاً للجمهور ولمديرية المسارح التي أدارت ظهرها لهذه
التجربة المسرحية المتميزة، وهذا ماعبر عنه الأخوان ملص، ولكن النار الموجهة للجمهور كان الغرض منها الإمتاع بينما النار الموجهة لمديرية
المسارح كان الغرض منها الإحساس بهم!
في هذا العرض الذي أنجزه الأخوان ملص (محمد وأحمد) إخراجاً وتأليفاً وتمثيلاً كنا أمام شخصيتين إشكاليتين، الأولى: شاعر يريد العودة إلى
الماضي ليحقق أمجاده، بينما الشخصية الثانية فهي لعسكري يحلم بقدوم المستقبل لتحقيق أحلامه، وبين المساحتين المتخيلتين
(الماضي والمستقبل) يبدأ الصراع الدرامي بين الصديقين ليكتشفا بالنهاية أنهما أضاعا عمرهما في وهم المستقبل المنتظر والماضي الذي
رحل.
صراع محمول على بساط الكوميديا السوداء، كوميديا منسوجة من الحاضر القاسي حيث الرفاهية الوحيدة أمام هذا العسكري، كأس المتة
والتغني بالمستقبل، بينما رفاهية الشاعر الحياتية تعتمد على كأس كحول وأشعار ينسجها لحبيبته، والحوار الحاد والجميل الذي يجري بين
الاثنين يدلنا إلى مدى التهميش الذي تعيشه الشخصيتان، تهميش يأخذهما إلى منطقة أحلام اليقظة التي تعبر عن واقع قاس لايرحم،
وفي نصف الغرفة التي تحولت إلى خشبة يتحرك الاثنان ضمن مساحة الضيق، يتحركان، أو لعلها الحياة تحركهما،فيرقصان معاً، يحتفلان بعيد
لانعرف ماهو، وكأن العيد، عيدهما مهمش مثلهما، وبين الجملة والجملة تأتي الضحكة محملة بالبكاء، أو البكاء المحمل بالضحك للحظات
شعرت أن كل واحد من الجمهور يمكن أن يكون الشاعر، وكل واحد من الجمهور يمكن أن يكون العسكري!
كما أن مفردات الحوار التي جاءت مشحونة أحياناً بكلمات بذيئة تأخذنا إلى ماقاله مرة مظفر النواب في دفاعه عن الكلمات الشعرية البذيئة
حيث قال: (دلني إلى واقع أكثر بذاءة مما نعيش)، حوار واقعي حاد يدلنا إلى الضياع العام الذي تعيشه الكثير من الشخصيات والشرائح في
حياتنا، حوار كان من القسوة والحرارة أن اضطر العسكري إلى تهديد صديقه بالمسدس ليجبره على الحديث لحبيبته، فيفعل ذلك الشاعر
لنكتشف أن هذا العشق المحمول في القلب بقي في الصدر مدة أربعين عاماً!
بالتأكيد يمكن توجيه عدة ملاحظات إلى هذا العرض المسرحي، ففي الحوار الكوميدي تم تكرار بعض الكلمات أكثر من الضروري (جملة عما
تقفل) كما تضمن العرض بعض التلميحات العاطفية التي تأخذنا إلى منطقة المسرح التجاري وأعتقد أنه يمكن الاستغناء عنها أو استبدالها
بالأجمل والأمتع مسرحياً!
(كل عار وأنت بخير) محاولة من الأخوين ملص لإثبات أن الإبداع الفني يمكن أن يخرج من أي مكان، وتلك (الغرفة الصغيرة والحنونة) كانت بحق
أكثر من خشبة وأوسع من صالة، وشخصياً شعرت بالدفء الروحي، وشعرت أنني ألتقي بأصدقائي (هل تذكرتم سعد الله ونوس وقدرة
المسرح على صنع الحوار والأمل؟).
الأخوان ملص انتبها إلى هذه النار المسرحية، احفروا لها أكثر من موقد معرفي لأنكما تملكان الطموح والإبداع والموهبة والأهم من كل ذلك
أنكما تملكان الحب.
بمناسبة بدء عرضكما (كل عار وأنت بخير) نقول لكما كل عام وأنتما بخير.