2012/07/04
نضال حمارنة - البعث
ولد الروائي غالب هلسا في 18/12/1932 وتوفي في دمشق 18/12/1989 وغادر جثمانه بعد غربة طويلة ليدفن في مسقط رأسه قرية ماعين-محافظة مادبا-الأردن.
في سن الرابعة عشرة فاز بمسابقة للقصة، درس في الجامعة الأمريكية /قسم الصحافة/ في بيروت، وهو طالب لاحقته السلطات واعتقلته ثم رحّلته إلى الأردن وسجن هناك في معتقل الجفر الصحراوي. بعد خروجه من السجن فُرضت عليه الإقامة الجبرية في مدينة مادبا، /كتب في روايتي (الضحك) و(البكاء على الأطلال) عن تلك الفترة بطريقة الفلاش باك/. سافر إلى العراق للدراسة لكنه اعتقل 1954 ورُحِّل من جديد إلى الأردن، التي غادرها إلى القاهرة لاستكمال دراسة الصحافة في الجامعة الأمريكية التي تخرج فيها عام 1958. كعادته شارك في الحياة السياسية في مصر.. وتلقى تدريباً عسكرياً 1956 وتوجه إلى الإسماعيلية مع رفاقه لمقاومة العدوان الثلاثي، إلا أنه فيما بعد اعتقل في مصر مع زملائه اليساريين عام 1966، كان له حضور مميز في الحياة الثقافية المصرية.. وقد اختير من قبل زملائه الكتاب والمثقفين لقراءة بيان رفضهم-زيارة أنور السادات للقدس في مؤتمر صحفي- فرحِّل عن مصر مبعداً إلى دمشق.
أنجز في مصر أغلب رواياته (الضحك)، (البكاء على الأطلال)، (الخماسين)، (السؤال)، كتب (ثلاثة وجوه لبغداد) عن تجربته في العراق، وأثناء وجوده ما بين دمشق وبيروت أصدر روايتي (سلطانة) و(الروائيون).
ترجم (جماليات المكان) لباشلار وكتاب (فوكنر) ورواية (الحارس في حقل الشوفان)الخ. ومن أبرز نتاجاته النقدية (المومس الفاضلة ومشكلة حرية المرأة) وقراءة نقدية لأعمال (الصهيوني عاموس عوز وترميزاته) وكتاب (المكان في الرواية العربية)الخ...
كرس غالب هلسا حياته لمشروعه الإبداعي والثقافي ليس من أجل حظوة أو مال أو نفوذ، لم ينفصل عن هاجس إبداعاته، فبقدر ماكان جريئاً وشفافاً في كشف أوجاعنا، والمسكوت عنه في حياة البشر، ومتمرداً على الشكل والسرد التقليدي في المرويات.. كان في حياته معارضاً ومجابهاً لكل ماهو تقليدي وثابت ومعيق. كان ناقداً لاذعاً، رقيقاً وحازماً وكريماً مع أصدقائه، ساخراً في تعليقاته، على الدوام لم يرضَ بأنصاف الحلول، (من أجل أن أكتب قررت أن أعقد اتفاقاً مع الحياة، أن أسالمها وأتجنب صراعاتها الصغيرة البائسة.. في عملي تنازلت عن كل مطالبي عدا اثنين: الوقت والعزلة، ولم أكن خاسراً).
اهتمّ غالب هلسا بخصوصية المكان كفضاء له طابع خاص وملامح مميزة تكشف أثرها على فسيفساء حياة البشر فيه، ولجأ إلى أزمنة القص المتعددة وتباين الأمكنة في داخل النص الواحد، واستفاد من تقنيات عديدة منها المونولوج، والاسترجاع، والتداعي، ومن مستويات اللغة، فمن السرد الأدبي المشغول عليه إلى لغة الصحافة والوثائق، إلى لغة الحياة اليومية الشفاهية، ولغات الفنون المختلفة.. السينما، أغاني الفلكلور، التراث الإسلامي والأيقونة الدينية.
هل تقصّد غالب هلسا كتابة سيرته الذاتية، أو ترحاله القسري عبر المدن العربية!، أم أراد أن يكتب رؤيته الخاصة والذاتية جداً عن الأمكنة والبشر شركائه في الواقع المعيش؟.
يقول غاستون باشلار: «فكلما بعدنا عن مسقط رأسنا، عانينا من عذاب روائحه».. في كل روايات غالب هلسا المكتوبة في الغربة عن وطنه الأول تنبثق من أحد فصولها حكاية طفل صغير مازال يستمع لصوت الحادي في ليل القرية.. ويشتم رائحة القهوة، ويسمع أصوات مكان الماضي.. إيقاع البكائيات، تنويمة الطفل الحزين وهدهدات المرأة (تمور اللوعة، تلوب لاذعة أحشاءه، تدعوه إلى الانخراط والغوص، دافعة به إلى ماضٍ يستحيل استعادته) هي إذاً عذابات الغربة المتراكمة في الحواس مجتمعة، واستحالة استعادة الماضي.. أمكنة الماضي.. أصوات الماضي.. روائح الماضي وامرأة الماضي المعزولة في الكهف!.. إن كتابات غالب هلسا تنبثق من الحلم، حلم اليقظة بكل تجلياته.. في الحرية والعودة إلى مرقد تأملاته..
تأملاته التي شرعت له أبواب العالم في إنجاز مشروعه- الرواية- وجعلته الساكن الأول في عالم الوحدة.. كأنه سكن العالم كما يسكنه طفل مستوحد يسكن الصور ليعيد إنتاجها وجمع تداخلاتها ما بين الاجتماعي والنفسي والتاريخي والجغرافي في عليّة البناء الروائي، في تشابك تركيبة النص، ليصنع نسيجاً ثرياً للوصول إلى أزمة التمزقات العميقة التي يعيشها الإنسان العربي المعاصر، بغض النظر عن العواصم التي ينتمي إليها.
إن الروائي غالب هلسا سيبقى مثيراً للجدل، لأنه كان صادماً بعنف وعن وعي، لذلك استطاع أن يعكر صفو الصورة التقليدية التي لدينا عن العالم، والصورة التي لدينا عن أنفسنا وانتمائنا بوصفنا قراء.