2012/07/04
راشد عيسى _ السفير
يُقدّم «مطر أيلول» لعبد اللطيف عبد الحميد، الفائز بـ«الجائزة البرونزية» في الدورة الأخيرة لـ«مهرجان دمشق السينمائي» نفسه بحبكة مكــشوفة، لا تعقيد فيها ولا أسرار، إذ يقوم على عنصرين محببين لدى الجمهور. فبدلاً من قصة حب واحدة، جاء بحفنة من قصص الحب، حيث الكل عالق فيه، إلى جانب مناخ كوميدي نهل من قصص حب أقرب إلى الفانتازيا منها إلى الواقع. يحكي الفيلم قصة أب أرمل (أيمن زيدان)، واقع في الحب هو وجميع أبنائه، أربعة منهم موسيقيون، وهؤلاء كانوا ذريعة لعنصر محبّب آخر، إذ ظلوا يعزفون طوال الفيلم أجمل أغنيات الحب والطرب. إنها نوع من الموسيقى التصويرية، التي وجدت مسوِّغاً لها لتدخل في نسيج الحكاية. فهم عاشقون أيضاً، يتصرّفون على نحو كاريكاتوري. إنهم خاطبون أربع فتيات شقيقات، يزورونهن في الوقت نفسه، مرتدين الثياب نفســها، حامليــن الهدايا والوعود نفسها.
احتفال يومي
يفرد الفيلم لأحد الأبناء (حازم زيدان) حكاية أخرى، حيث يذهب يومياً ليغسل سيارة الحبيبة صعبة المنال، بطريقة طقسية، مزيناً إياها بالورود ورغوة الصابون. يصبح المشهد فرجة واحتفالاً يومياً لأهل الحي، الذين يطلّون من شرفاتهم كما لو كانوا يشجّعون فريقهم الأحب. وفريقهم هنا يقف في مواجهة مستحيلة مع غريم أُجبرت عليه حبيبته. هذه التي تؤدّيها لواء يازجي لن نشاهدها سوى في إطلالات صامتة، مع لمسة يد حنونة للعاشق الأسطوري. خاتمة الحكاية ستكون حين تلقي عليه لمرة واحدة وأخيرة كلمة «بحبّك»، لنسمع بعد لحظات صوت ارتطام سيارتها، ثم موتها. قصة أخرى يؤدّيها يامن الحجلي، الذي لن نراه سوى راكض في شوارع دمشق ليصل إلى شباك الحبيبة (ميسون أسعد). لا يرجوان شيئاً سوى نظرات من خلف الشرفة، كما لو أنهما روميو وجولييت أبديان. لكن، في المرة الأخيرة، يأتي ليجد الشرفة مســدودة بجــدار إسمنتي. صورة الشاب الراكض في الشــوارع لاهثاً، وملامحه التي تكبر سريعاً في المشهد الأخير بعــد إحــباط ويأس، يذكر بوضوح بفيلم «فورست غامب» والبطل الراكض أبداً، والذي «ينفّس» فجأة مع إحساس باللا جدوى.
ليست هذه الاستعارة الوحيدة التي يقترضها «مطر أيلول» من أعمال أخرى. فالأب (زيدان) يستعير على هامش قصة حبه لشغّالة تعمل في منزله، قصة «موت موظّف» لتشيخوف. لقد ضرب رئيس لجنة حكومية وراح يتعقّبه ليعتذر منه كلما وأينما رآه. أما الحكاية المتن لدى الأب، فهي ذلك الحب والمواعيد التي تُعقد وسط الأشجار في سيارة الأب العتيقة. وحين تشتهي حبيبته مطراً، يصنع لها مطراً على طريقة الأفلام، وسرعان ما ينقلب مشهد «الرومانس» إلى كوميديا، حين نكتشف، نحن والحبيبة، أن صهريج الماء، صانع المطر، قد نفد. دور الحبيبة لعبته هنا سمر سامي، وحضورها، خصوصاً ذلك المقطع الذي غنّته بصوتها «افرح يا قلبي لك نصيب»، كان بحق هدية الفيلم.
قصص الحب في الفيلم تصطدم كلها بجدران صلدة، من دون بحث في أسباب أو خلفيات. فالفيلم لا يهتم بذلك، حيث الأشياء كلّها بدت أقرب إلى رموز وإشارات، أبرزها تلك اللجنة الكوميدية والفانتازية المؤلّفة من أشخاص يرتدون لباساً موحّداً، يعدّون الأشجار ويقيسون الطرقات والناس، كناية عن مختلف أنواع السلطة التي تمرّ في يوميات الناس، وفي مناماتهم أيضاً. وما يلفت الانتباه، أن كل قصص الحب شديدة العذرية. فحتى القبلة في حال وجودها تكون أخوية تقتصر على الخد. قد يكون مردّ ذلك إلى أن الفيلم منتج خصيصاً بتلفزيون «قناة أوربت». وربما كان عليه أن يراعي جمهوراً أوسع من جمهور السينما. أما حضور عازف البزق السوري الراحل محمد عبد الكريم في بداية الفيلم، فلا شك في أن لا مكان له، ولم يستطع المخرج الذي أراد فيلمه تحية لأمير البزق أن يدخل الشخصية في نسيج الفيلم. ربما كان يكفي استعادة الأغاني المبثوثة هنا وهناك على مدار الفيلم.
لكن كل ذلك لم يمنع أن يمر الفيلم بسلاسة على قلوب المتفرّجين (أو لنقل بعضهم)، فبدا مهضوماً وخفيف الظل، برز فيه أداء أيمن زيدان وقاسم ملحو ويامن الحجلي، وإطلالة جميلة لميسون أسعد. لكن، علينا أن نعترف أن الفيلم بسيط بتركيــبته، وبحــكايات لا تنطوي على جديد، وبالتالي لن يتمكن الفيلم من الصمود لمهرجانات أخرى.
فرص مهدورة
«
حراس الصمت»، فيلم المخرج السوري سمير ذكرى، كان الممثل الوحيد لإنتاج «المؤسسة العامة للسينما». لا نعتقد أن أحداً انتظر أفضل مما جاء، نظراً إلى مجموعة من الأفلام الكارثية السابقة للمخرج المتقاعد وظيفياً، الذي لا يريد أن يفسح لجيل كامل من السينمائيين الشباب. الفيلم مأخوذ عن رواية الأديبة غادة السمان «الرواية المستحيلة: فسيفساء دمشقية»، التي يُعتقد أنها العمل الذي يضمّ، مواربة، شيئاً من سيرة المبدعة السورية المغتربة. وهو يستعيد حكايات مبعثرة وردت أساساً في تلك الرواية، ويقترب فيها من أجواء المسرحة، حيث الشخصيات تتحوّل إلى رواة يتوجّهون مباشرة إلى الجمهور، في قصص تتوالد وتروي ما كان يجري في محيط البطلة، التي تُصرّ على احتراف الكتابة، في موازاة محاولات لاكتشاف حقيقة مقتل أمها، التي ستكشف لها الأيام أن الجهل والتقليد الأعمى هما من قتلها. ساعتان ونصف الساعة، أراد المخرج كاتب السيناريو بنفسه، أن يروي خلالها حزمة من الحكايات، وكان ممكناً اختيار مسار واحد منها. لكن المشكلة ليست هنا فحسب. فقد اجتمعت قصص مفكّكة، ومسرحة في غير مكانها، مع اختيار ولا أسوأ لممثلين، معظمهم يخوض تجربته الأولى في فيلم سينمائي، وقد جاء ذلك نظراً لرفض نجوم موثوقين العمل مع سمير ذكرى. على سبيل المثال، انظروا هذا المشهد الذي تحكي فيه البطلة للجمهور مباشرة أنها كم تمنت لو كان هذا الرجل الذي خلفها هو من تزوّج أمها. نظرنا فوجدنا رجلاً هشّاً بلا كاريزما، يؤدّيه ممثل هو الآخر بلا حول ولا قوة. ذلك لا يلغي أن في الفيلم بعض محاولات طامحة، كمشهد رقص لفتيات في قاعة الليونة يتدرّبن على الرقص، وفي الوقت نفسه يدرن حديثاً في السياسة يكشف مروحة التيارات والأحزاب السياسية السائدة في خمسينيات دمشق. فبدلاً من حوار على الطاولة، جرى الحوار رقصاً، لكن ما ينقــص المشــهد الرشاقة والخفة والسرعة التي تتطلّبها حيوية الرقص.
لا بدّ من القول أخيراً إن على «المؤسّسة العامة للسينما» التروي قليلاً في منح الفرص لمن لم يثبت نفسه في فرص سابقة. لا بد من النظر إلى جيل شاب توّاق إلى السينما.