2012/07/04
صلاح دهني - تشرين فضائيات عربية نعرفها، وفضائيات عربية لا نعرفها، لكنها موجودة، يقال والعهدة على من عدّ، إن سماءنا العربية وحدها باتت تعج بـ 75 فضائية تتنزل أعمالها الدرامية على رؤوسنا، مما تنتج ومما تستورد، على مدى ساعات الليل والنهار.. مزيج هذا الذي تضخه تلك الفضائيات، يختلط فيه الحابل بالنابل تتميز من بينه الدراما الأكثر تقبلاً من أوسع فئات الجماهير، لكن الجردة تتضمن فيما تتضمن وثائقيات وعقائديات وصنوفاً لا حصر لها من المسليات الملهيات: غناء، رقص، حزازير، فوازير، إعلانات، ومن سيربح المليون. ملايين، بل قد تصل إلى مئات ملايين الدولارات، نفقات تلك الفضائيات وبرامجها كل يوم، وعلى مدى الأيام، انسطل أيها المشاهد العربي واجلس أمام صندوق العجائب وفي يدك أعجوبة الريموت، تتنقل بك من شرق الدنيا إلى غربها وتجعل عقلك يفتل، اجلس واقتل الوقت، فيما الوقت يقتلك ويلهيك عن حالك وشؤون زمانك. فيمامضى كانت دور السينما، بصنوف الدراما التي تقدمها، مرتعاً للجماهير الأقل تسلحاً ووعياً وثقافة. هذه الفئات من الناس كانت بطبيعة الحال تقبل على الأفلام الأجنبية الرخيصة التي تقدمها معظم دور السينما في طول الوطن العربي وعرضه، كما تقبل على دراما تقليدية تقدمها أفلام عربية تقليدية تتملق أذواقها وتخضع لأدنى مستويات متطلباتها، وهو ما كان يحدث دوماً ويساعد تلك الجماهير على اعتياد الارتخاص والتفاهة والتهريج والمجون والميوعة وخاصة: اللامسؤولية... هذا الإقبال كان يقدم لتلك الأفلام بالذات سبب استمرارها وعيشها المديد، ونجاحها المادي. ثم جاء حينٌ من الزمن ظهرت فيه الدراما التلفزيونية. أسمح لنفسي بأن أقول إن الدراما التلفزيونية العربية –بنحوٍ عام وليس إطلاقاً- أسهمت في تكوين رؤية بصرية أكثر وعياً وأفضل فهماً وأرفع مقدرة نقدية لدى فئات متوسعة من جماهيرنا العربية. فمع التوسع في بث صنوف الدراما هذه، واعتياد الناس على متابعتها، ارتفع مستوى الثقافة البصرية، وبالتالي، ارتفع مستوى المقدرة الانتقادية، وصرت تسمع أكثر فأكثر من حولك أناساً من الأقل ثقافة، يبدون آراء نقدية جديرة بالاعتبار حول ما تقدمه الفضائيات من أعمال درامية مختلفة: سينمائية أو تلفزيونية. على أن ما نقع فيه اليوم، وبعد طول تآنس مع التلفزيون خاصة، لهو مطب لا يستقيم مع ثقافتنا. مطب أشار إليه ذهن نير فذهب عبرة لمن اعتبر إذ قال: (إن أعظم ما يعاني منه أبناء عالمنا من إرهاق، يتمثل في إيلاء اهتمامهم لأمور باتت عادية، يومية، ما عادت تستحق الاهتمام بحق) الأمر الذي – في حالة التلفزيون- يسبب ضرباً من تكسير البدن على المستوى النفسي. الحقيقة أن الإنسان يخرج مكسراً من تلك الأمسيات والسهرات التي(يدبق) فيها أمام شاشة التلفزيون وكأن قفاه طلي بالغراء، دون أن يكون هنالك ما يسترعي اهتمامه بقوة وصدق، فعلام إذن يدبق؟ لأن سحر الشاشة الالكترونية لا يضاهيه سوى إفلاس عزيمتنا في مقاومة إغرائه. وقد لا يستغرب واحدنا إذا ما بلغه ذات يوم أن الشاشة الصغيرة تبعث أشعة تخدر الذهن وتحسر يقظته، مادمنا نفقد مجتمعين بضع نقاط من محصلة قدرتنا الفكرية فيما نحن نواجه تلك العلب الضخمة، فليتنا نرقب بوعي ما نحن ننجر إلى مشاهدته في أحيان، لعل حركة الصور وسحر الصوت فيما تغدقه علينا صنوف الدراما هي التي تنوم وعينا مهما كان المحتوى، أو لعل الجانب الطفولي فينا هو الذي يرضعها كما لو كانت تتقطر من قارورة إرضاع فيسكن إليها ويتخدر. في كل الأحوال، ثمة وضع ما يحدث لا يمكن تبيان طبيعته ولا حدوده. إلا أنه من الواضح أن المرء الواعي والقادر إذا ما قضى لسبب ما بضعة أيام بغير تلفزيون بعيداً عن أي عمل درامي، فإنه ينتابه إحساس لاذع بأنه تخلص من سم سرى في بدنه، أو استعاد حرية مفتقدة. خطرت هذه الأمور في بالي خلال فترة استجمام قضيتها بعيداً عن أي جهاز تلفزيون. وحين عدت فركت الزر السحري فتألقت على الشاشة بكل بهائها، لعبة (محمرة مبودرة معجعجة). بعدها مباشرة ظهر مذيع وقور مهندم مزجج الحواجب تلا نشرة إخبارية لا تقل عنه وقاراً وتقليدية.. وإملالاً. على قناة أخرى كان هناك في انتظارنا عمل درامي في شكل فيلم عتيق هز شبابنا في سالفات الأيام. لكن، مفاجأة: لم يكن بقي منه سوى عموده الفقري لكثرة ما تداولته أيدي الموزعين. فالألوان قد حالت، واللقطات توالت، والخربشة في الصوت تجرح الأذن، غير أن واحدنا إنسان متفهم، مرت يومذاك مناسبة محددة تناسبها الدراما المتضمنة في ذلك الفيلم، فماذا يفعل المبرمج ومراقب النسخة إذا كان هذا الفيلم يناسب المناسبة مهترئاً على هذا النحو؟ فعلى الله الاتكال مادام أي مسؤول لم يفكر بالتحضير المسبق.. مرر الفيلم واسحب شعرتك من عجين المسؤولية ومن لسعات أقلام الصحفيين والنقاد من طويلي الألسنة.. حتى إذا انتهى الفيلم وخمدت أنفاسه، أوسعوا الشاشة رقصاً وفقشاً من قبيل إراحة أعصاب المشاهدين.. ولتنويم أفكارهم وتخدير وعيهم.. ؟؟ وتباً لكل ما يجري في دنيا العرب من أحداث! فركة أخرى لفانوس علاء الدين فإذا نحن أمام حزمة أقنية عربية، واحدة تصب مسلسلاً عربياً شاهدنا حبكته قبل ثلاثين سنة في عمل درامي (بايخ).. بؤس تلفزيوني تبكي له قلوب الخياطات والطرازات وكل فطوم وخدوج من أعمق أحياء المدن إلى آخر أطراف وادي الخابور. في قناة أخرى كان القتل والضرب في أوجه.. مسدسات لا تنضب تصوب وتطلق في وجهك مسلسلات أميركية أغزر من مياه المحيطات.. تمسك بك من مخنقك قبل أن تقودك إلى الفراش مهدود القوة محطم الجملة العصبية، لكي تنام بلا نوم. عينات تلك كلها.. لا تظننّ أنها تقتصر على بلد عربي دون بلد. كلا، فكلنا ولله الحمد في الهم عرب، رأيت الأمر ذاته في تونس وفي الجزائر، رأيته في مصر وفي الكويت، وحتى اليمن السعيد.. أغانٍ ولا غناء، موسيقا ولا موسيقا، دراما من الصنف الذي يجعلك تنام واقفاًً، نشرات تقض المضجع، ندوات فكرية معظمها بلا فكر، برامج فنية كثرتها تقبر الفن.. كل ما يقدم يعاين الأمل في مقابلة وجه محاسب الإدارة. على أن ما يعني الناس حقاً في مجال الدراما على وجه الخصوص هو أن تصور حياتهم، تعكس همومهم المحلية، تلتقي بنحو أو بآخر مع ما يشغل أذهانهم ويحرك ضمائرهم وطنياً وقومياً. لاشك في أنها تفعل، لكن في أحيان فقط.. تمس لكن من بعيد لبعيد، تقارب على خشية، تعرض دون أن تلتزم، الرقابة التي في الرأس تجعل الموضوعات كلها قابلة للالتهاب، إذن فلتبقَ النار تعس تحت الرماد.. هنا يأتي دور المبدع: التواصل مع أوسع فئات الجمهور لكي يحقق عبر فنه أو نتاج أدبه وظيفة اجتماعية عزيزة على قلوب الجميع، وهنا يأتي دور الأعمال الدرامية الأكثر جاذبية لدى الجمهور. الأعمال التي مع زيادة تفتح المشاهد ونمو وعيه وانحسار القراءة، يمكن أن تلعب دوراً إيجابياً بالغ الأهمية ورفيع الخطورة.. قوة دفع وصورة للمثال الذي يتوجب الاقتداء به. يجب أن يظل للمبدع الدرامي، من الكتابة والإخراج حتى الإنجاز، أفضل الفرص لكي لا تتلاشى بالتدريج وتحت ضجيج وفحيح أسوأ الأعمال الدرامية المستوردة، قيم الخيال والذكاء والالتزام، في انتظار يوم القيامة!