2012/07/04
"بيت الحكمة" لجهاد سعد في افتتاح الدوحة عاصمة للثقافة العربية سلوكنا اليوم ممسرحاً على منصة التاريخ السفير/ انور محمد
"بيت الحكمة" لجهاد سعد في افتتاح الدوحة عاصمة للثقافة العربية سورية تحديداً، على رأسها المخرج والممثل المسرحي جهاد سعد, بعكس ما فعلت عاصمته دمشق حين استعانت بسيركٍ إيطالي ومفرقعاتٍ في افتتاح دمشق عاصمة الثقافة العربية 2008.
أوَّل من أرسى الحجر الأساس لـ «بيت الحكمة» هذا كانَ الخليفة العباسي هارون الرشيد, غير أنَّ من شيده وأفنى حياته من أجله هو الخليفة المأمون بن الرشيد؛ فكان يمنح مؤلِّفَ الكتاب أو مترجمَه وزنه ذهباً, فيحوَّل البيت بذلك إلى دارٍ للترجمة والتأليف, ومركز للبحث العلمي ورصد النجوم. وقد بقي منارة للعلماء والأدباء حتى دمَّره هولاكو عندما اجتاح بغداد العام 1258 وألقى بمحتوياته في نهر دجلة. أمر مثيرٌ في مناسبة كهذه أن نستعيد هذا البيت في عرض يحكي قصة تأسيسه من سيناريو ياسر الأيوبي عن توليفة لمحمد قجة؛ وتمثيل غسان مسعود الذي أدَّى دور هارون الرشيد, فيما كان عبد المنعم عمايري يقوم بدور المأمون, إلى جانب زياد سعد بدور خازن بيت الحكمة, وميسون أبو أسعد التي أدَّت دور حبيبته ومن ثمَّ زوجة المأمون, مع آخرين بينهم فنانون قطريون, وبالاشتراك مع فرقة «إنانا» السورية والمغنيين السوريين إبراهيم كيفو وميساء عيسى.
جهاد سعد في إخراجه لـ «بيت الحكمة» كان يتنقَّل بين تجسيد الفعل فنشوف نمو الحكاية, وبين معاناته الشخصية في موقف من هذا البيت الذي كان يمثِّل عقل الأمة, جهاد حوَّل هارون الرشيد – غسان مسعود من مَلِكٍ إلى شخصٍ من سائر أبناء الشعب, فكان يجلس على الأرض وليس على كرسي العرش، من دون أن ينتقص من قدره. كذلك المأمون – عبد المنعم عمايري وهو يصفِّر كما العشَّاق لحبيبته ميسون أبو أسعد في الشريط السينمائي الذي شكَّل خلفيةً, بل عمقاً كان يمهِّد ويؤسِّس للكثير من الأحداث, بما فيها المعارك العربية الإسلامية مع الروم.
جهاد سعد أراد أن يُظهر الروابط الروحية - على ضعف، بل رداءة النص الذي ولَّفه محمد قجة - بين المبدع/ مفكراً وأديباً وعالماً وبين الدولة. فَسِوَى عصر المأمون كانت العزلة قائمةً بين المثقَّف والحاكم. كان الحاكم يخشى المثقَّف, يخشى عقله. مع ذلك فقد كان جهاد سعد ورغم هشاشة الحكاية وانعدام الصراع يمسك بخيط رفيع لم يقطعه بل قوَّاه؛ فالعرض لا هو مسرحية ولا هو أوبريت ـ النص مجرَّد حكاية خالية من التراجيديا - يمسرحه، ويبعث صراعاته النفسية في الرقصات التي قدمتها فرقة إنانا وقوامها 120 راقصاً وراقصة بمساعدة جهاد مفلح, فنشوف ونعيش الغضب والعنف والمتعة بانتصار العقل. وهذه برأيي أوَّل مرَّة تقدِّم فيه فرقة «إنانا» عملاً متسامياً إلى هذا الحد، وبإحساس عميق؛ فلوحة المعركة مع الروم, ثمَّ لوحة بغداد.. على سبيل المثال, اقتربتا - مع تمهيدٍ بمعركةٍ حربية سينمائية على الشاشة الخلفية - من الرقص التعبيري بل إنَّ ما قامت به الفرقة كان رقصاً تعبيرياً, مع حكايةٍ عن العرض يتمُّ شرحها في وسائل الإعلام أو في دليل العمل, لنعلم أنَّ هذا العرض عن صقر قريش أو صلاح الدين أو.. ثمَّ نشوف رقصات ورقصات خالية من الدراما/ التراجيديا والكوميديا. حتى أنَّ صوت غناء إبراهيم كيفو كان يحتبس موسيقى من المشاعر المحتدمة والكامنة في أعماقه وهو يغني لبيت الحكمة, فنحس بوظيفة غنائه - فالغناء هنا والرقص أيضاً وربَّما لأوَّل مرَّة في فرقة إنانا يحكيان تاريخ العقل والروح الإنسانية, لذا لم يكن غناءً أو رقصاً لمجرِّد تقديم المتعة أو الفرجة, التي تمرُّ عبر الجسد/ جسد الراقصين والراقصات بصفته حاملاً وليس موضوعاً.
بعث العقل
جهاد سعد لم يذهب إلى الخيالي ولا إلى الخارق والبطولي فنشوف فانتازيا, هو بقي عند الواقعية؛ فنحن العرب كان عندنا عقل علمي ومعرفي, عقل نقدي. الآن وبدليل ما جاء في عرض «بيت الحكمة» الذي رأيناه لم يبق عندنا شيء. هو أرانا فعلاً واقعياً ربَّما يكون حيّاً, سلوكنا مجسَّداً على المنصة الدائرية- التي تدور فتنتقل من زمن إلى زمن, ومن مكان إلى مكان محدَّدين فيزيائياً واجتماعياً وتاريخياً. جهاد كان مباشرة داخل هذه الأزمنة والأمكنة ومن دون أن يخفي انفعالاته وعواطفه. كأن جهاد سعد يبحث عن طريقة جديدة للوجود, أو عن عودةٍ تشكِّل بعثاً للعقل. فالساعة أهداها الرشيد إلى شارلمان ليؤكِّد العزيمة الروحية المؤمنة والمتمسِّكة بالعلم والمعرفة.
هي نماذج إنسانية؛ زياد سعد/ خازن بيت الحكمة في دور جسَّد فيه قوَّة المشاعر وحدَّتها في العلاقة بالكتاب حين رفعه وصيَّره؛ طيَّره فوق رؤوس المسؤولين والسائلين ملوكاً أو أفراداً من سائر أبناء الأمة, عبد المنعم عمايري/ الخليفة المأمون حين جرَّده من سيف القهر كسلطة باطشة, وأمسكه قلم العلم والبحث المعرفي كقوَّة لا تفنى. وغسان مسعود هو الأخر بصفته هارون الرشيد؛ لم يكن يريد له جهاد سعد أن يتحرَّك أو يمثِّل بطريقة يروِّعنا فيها كمشاهدين, فكان ومعه عبد المنعم عمايري بدور المأمون يتنقَّلان بحركة بسيطة إنما نشطة تكشف عن حدَّةٍ في الذكاء وفي التواضع, وعلى أنهما لا يزالان يمثِّلان رأس السلطة, بيديهما الموت لشعبهم كما بيديهما الحياة. إنها نظرة نقدية لكنها ليست ساخرة, فلا داعي وفي عمل يمجِّد العقل العلمي أن نشوف فظاظة وقوَّة الحاكم, فلا يجب أن نعاديه وإن كان من حاجز بيننا وبينه فليكن شفافاً- لنؤجِّل الثورة.
واقعة جمالية
لعلَّها لعبة الألوان، اللعبةُ التي كانت تلعبها معنا فرقة إنانا؛ لعبة الإضاءة فيما نركض وراء الأحمر والأزرق والأصفر ولا نراها إلا من خلال النور الخالص. كانت الألوان - ربَّما - في مراحل من العرض ترجمةً لأحاسيس (جوانية) ولو أنها هنا تأتي من الضوء الصناعي وليس من فرشاة الرسام؛ فقد كان لها مدلول نفسي وآخر حراري وهي تسقط نوراً وظلاً على ملابس الممثلين والراقصين. ثمَّة مصدر تشع منه الألوان - لا أعرف لماذا لم يُستخدم اللون الأصفر الضارب إلى البرتقالي كلون رئيس، باعتباره يمثِّل (الحكمة) في الدولة الأموية في الأندلس - لكنَّها تشكِّل موقفاً بصرياً وآخر صوتياً مع الموسيقى وغناء إبراهيم كيفو وميساء عيسى والكورال ـ كورال إنانا - فتضعنا في صورة واقعية فيها شيء من إثارة للمشاعر وتحريض على أخذ جرعة من الجمال ولو أنَّها جرعة غير صافية, لكنَّها تجتاح، أو بدقَّة تتسلل إلى مناطق الذكريات حيث كنَّا الذي كنَّاه, وصرنا الذي صرناه سيما أنَّها صور آتية من زمن ولّى، ومن فكرٍ يبقى.
أزياء فرقة إنانا ليست قطع قماش, بل واقعة جمالية لها سلطة درامية على عين المتفرج, فهي تقوم بالاستثارة والإثارة والتداعي والإيحاء, ثمَّ إنَّه علينا أن نعرف أنَّ «إنانا» الإلهة المتخيَّلة الأصلية لا الفرقة لا تزال تخدعنا, لا تزال توقعنا في الأوهام فنعيش الاستلاب - هي تستلبنا بصورتها, بزيِّها, بشكلها, فمرَّة نراها وهماً ومرّةً تصير حاجزاً ومرِّةً تصير ما تصير. هذا عن الأزياء. أما الديكور فقد كان وسيطاً - لم يكن ثقيلاً ولا فظاً غير «الساعة» التي أهداها الخليفة هارون الرشيد إلى الملك شارلمان, فقد كان غنياً بالإشارات مع شيء من أفكار, وكأنَّه شريك الممثلين.
كان الراقصون يتحرَّكون ولا يمثِّلون - حركات خفيفة ومراتٍ قاسية مع شيء من فرح, بما يسمح بتمدّد اللحظة الدرامية التي كان يشتغلها ويصعِّدها الممثلون: غسان مسعود وعبد المنعم عمايري وميسون أبو أسعد وزياد سعد و... فلا تجيء حركاتٍ متناقضة بل مفاجئة, فكل حركة محسوبة.
(الدوحة)