2012/07/04
إحتفالية دمشق المسرحية – الكفاح العربي الحركة المسرحية في العاصمة السورية كانت بطيئة ومتعثرة منذ بدء العام 9002، لكن المشهد اختلف تماما في الشهر الأخير من العام، اذ شهدت مسارح دمشق نشاطا غير مسبوق، تمثّل في عرض ما لا يقل عن عشرين عملا مسرحيا. في شهر واحد عُرضت مسرحية «الشريط الأخير» في دار الأوبرا، وأُقيم «المهرجان المسرحي العمالي» في مسرح العمال، كما أُقيم «مهرجان الشام المسرحي» في صالة الحمراء، وانطلقت احتفالية «أيام مقدسية» في صالة القباني احتفاء بالقدس عاصمة للثقافة العربية. وإذا اعتبرنا احتفالية «أيام مقدسية» نموذجا لذلك الحراك، فقد شملت هذه الاحتفالية ستة عروض مسرحية حاكت مأساة الشعب الفلسطيني، وتنوعت ما بين المونودراما والمسرح الراقص والمسرح الكلاسيكي. افتتحت الفعاليات فرقة «مسرح الرواة» الفلسطينية بمونودراما «الأحداث الأليمة في حياة أبو حليمة» عن قصة «ما يكون» للشاعر طه محمد علي، توليف وتمثيل إسماعيل الدباغ، دراماتورج نجوان درويش وإخراج جاكوب أمو، وأبو حليمة هو نموذج للمواطن الفلسطيني البسيط الذي طاوله التهجير، وتحمّل قسوة العيش في مخيمات اللاجئين، وانضم إلى المقاومة الفلسطينية دفاعًا عن حق العودة، وحين عاد من منفاه الطويل لم يجد فلسطين الأحلام، بل وجد واقعا مشوّها يتقاسمه الجنود والسياسيون والمدّعون والحشّاشون، فعاش مرارة الخيبة من جديد، بعدما أدرك أنه هو وأمثاله من البسطاء ليس لهم سوى شظف الحياة ومساحات الهامش مهما كانت تضحياتهم كبيرة في سبيل الوطن. ورغم التفاصيل الأليمة التي سردها أبو حليمة فقد سرت روح السخرية في تضاعيف العرض، واعتمد الأداء التمثيلي على المفارقات، ما جعل العرض ينتمي إلى الكوميديا السوداء. أيضا شكلت مأساة التهجير واللجوء وصدمة العودة محور العرض التالي «الوصية» الذي قدمته فرقة «نداء الأرض» وهي فرقة مكونة من أبناء الشتات، تأسست في العام 2003، والعرض من تأليف محمد صوان إعداد وإخراج زيناتي قدسية، وقد سار على خطين متوازيين، خط جسدته شخصية العجوز الفلسطيني أبو شحادة الذي يحكي لابنته مأساة خروجه ولجوئه، ويرغب في العودة ودفن ابنه الشهيد في تراب فلسطين تلبية لوصيته، فتمنعه سلطات الاحتلال وتقتله، وهنا استخدم المخرج أسلوب الحكواتي، وجعل صوت الراوي يأتي مسجلا على خلفية المشهد، أما الخط الآخر فقد جسدته مجموعة من اللوحات الراقصة التي تنتمي إلى الفولكلور الفلسطيني. بخلاف العرضين السابقين فإن مسرحية «المدينة المصلوبة» ضمّت الكثير من الشخصيات، وتمحورت حول احتلال القدس في العام 1967 وبدايات تهويدها باقتلاع الفلسطينيين وتغيير النسيج السكاني والديمغرافي، ومن ثمة ولادة المقاومة على أيدي الشباب، ودور الكنسية ورجال الدين المسيحي في التحريض على المقاومة وحماية المقاومين مسيحيين كانوا أم مسلمين، والمسرحية من تأليف الأب الياس الزحلاوي، إعداد وبطولة زيناتي قدسية وإخراج محمود خضور. وبطبيعة موضوعها فهي تنتمي إلى المسرح الأيديولوجي الموجه الذي يقوم على طرح الأفكار والتحريض عليها أكثر من الاهتمام بأدوات التعبير الفني، فقد انطلق المؤلف من الموقف الديني الوطني الذي يضع فعل المقاومة فوق كل الاعتبارات والتقسيمات الدينية والمذهبية، ووازى بين صورة المسيح وصورة الإنسان الفلسطيني المهدد بالإبادة والتهجير، واعتبر أن قيامه معادل لقيام الثورة. أيضا قدّمت الاحتفالية مونودراما «شمة زعوط» تأليف غسان كنفاني، إخراج زهير البقاعي وتمثيل تاج الدين ضيف الله، والعرض الراقص «أفراح وجراح» تأليف وإخراج يوسف الطيب وتقديم فرقة «الوعد الفلسطيني»، غير أن عرض الختام «بيان شخصي» كان من أجمل العروض وأكثرها نضجا على المستويات كافة. العرض من تأليف مؤنس حامد وعبد الرحمن أبو القاسم، إخراج جهاد سعد وإنتاج اللجنة الوطنية العليا لاحتفالية القدس بالتعاون مع وزارة الثقافة السورية ومديرية المسارح والموسيقى. بيان شخصي شاشات طويلة تحدّ جهات الفضاء، وتعرض لقطات مصوّرة لحروب ومجازر حصدت أرواح الألوف من الأبرياء، ثم يدخل المكان رجل مسنّ، منّهك ومذعور، يلوذ من خطر يتهدده، ويناجي روحه المعذبة، حتى كأنه يخرج لتوه من قلب عدسة التصوير، لتبدأ بذلك حكاية الجرح الفلسطيني النازف التي تناولتها مونودراما «بيان شخصي». وتدور الحكاية حول شخص فلسطيني بسيط، ورث عن أبيه الفقر ومهنة جمع القمامة، وورث عن جيله خيبات المناضلين والحالمين بالثورة في كل أرجاء العالم، وتداعيات ذاكرته تأخذنا إلى محطات مفصلية في حياته تبدأ من طفولته البائسة وعلاقة والده القاسية به، إلى سنوات الاعتقال الطويلة في سجون الاحتلال، ثم اللجوء والمقاومة، فزيارة ضريح الرئيس جمال عبد الناصر في طريق العودة إلى غزة حيث السلطة المنقسمة على ذاتها، والاقتتال الفلسطيني الفلسطيني. ومحطات الذاكرة لا تأتي وفق تسلسلها الزمني الطبيعي، بل وفق مبدأ التداعي الحر الذي تحدثه صورة ما أو جملة سابقة، وهي تأتي محمولة على سرد رشيق مبني باللهجة الفلسطينية، غني بتلاوينه التعبيرية، مرة يستند إلى الأسلوب التهكمي، وتارة يقارب الشعر في حساسيته المرهفة، وأخرى الفكر في عمق رؤاه، لكنه في كل الأحوال يبني مجازه الواسع في الفضاء منطلقا من التجربة الشخصية إلى ما هو صميمي ومشترك، لتغدو السيرة الذاتية سيرة شعب تضافرت عليه الظروف الداخلية والعربية والدولية، كي يُحرم من حقه الطبيعي في حياة آمنة وكريمة على تراب أرضه. وعليه فإن الشخصية المقترحة هي شخصية مركبة ومتعددة الجوانب بامتياز، تحمل مؤثرات وتعقيدات وتناقضات الوسط المحيط، وتعكس ملامحها شريحة واسعة من الفلسطينيين، فهو المسحوق على أرضه وفي مخيمات اللجوء، المنسي في المحافل الدولية، لكنه دوما يتصدر نشرات الأخبار، وهو الحالم والمدعي، زير النساء الذي يقضي ليله وحيدا، هو الخائف والمتوعّد الذي أنهكه البحث عن الخلاص من دون جدوى، فأعلن نفسه مخلّصا للبشرية جمعاء، وهو من يحاول الانتحار كل يوم، لكن الحبل ينقطع من شدة ما ينوء مصيره من أثقال، فيعود ثانية إلى شاشات التلفزة وصور المعارك والقتلى. وقد استطاع الفنان عبد الرحمن أبو القاسم بأدائه الجميل الهادئ أن يضفي على هذه الشخصية ملامحها الواقعية ومذاقها الخاص بابتكاره مفاتيح حركية وجمل لفظية تميزها عن سواها. غنّى ورقص وتهكّم وفكر بصوت عال، وملأ خشبة المسرح حياة تضج بالمآسي والمفارقات المضحكة، وحين ختم البيان الشخصي بالقول: امسكوا أحلامكم جيدا، كي لا يقبض عليها الجلاد، وقف جميع الحضور مصفقا له. أما جهد المخرج جهاد سعد فقد كان منصبا على أداء الممثل، وعلى إقامة حاضنة رمزية وسوريالية الملامح تناسب الحالة المقترحة، فالفضاء كان مضغوطا ومحدّدا بشاشات العرض الطولانية والإضاءة الشاحبة، ومساحة الحركة كانت ضيقة، تتوسطها حاوية القمامة والمكنسة، وتتوزع على جانبيها أكوام الجرائد والكتب وصور المناضلين الراحلين في إشارة واضحة إلى مآل الحلم العربي بالثورة وتحرير الأرض والإنسان.