2016/11/03
السفير _ سامر محمد سماعيل
ينظر محمد عبد العزيز (القامشلي - 1974) إلى السينما على أنها «ملكوت الصورة» محاولاً تخليصها من سطوة الأدب والبنى الكلاسيكية، نحو مقترح بصري يقول إنه «لا يستهدف به المُشاهد الكسول»، بل يبحث فيه عن سؤال السينما، منتقداً أفلام التعبئة؛ فمنذ فيلمه الأول «نصف ملغ نيكوتين» (2007) «مروراً بشريطه اللافت «دمشق مع حبي» (2010)، وصولاً لفيلمه «الرابعة بتوقيت الفردوس» (2015) ظلت أفلام عبد العزيز إشكالية مع كل عرض لها يتجدد نقاش لا ينتهي. اليوم يضع المخرج السوري اللمسات الأخيرة على فيلميه الجديدين: «الطواسين» (إنتاج شركة الشرق) و «الحرائق» (إنتاج مؤسسة السينما) حيث يذهب في هذا الأخير لرواية حياة أربع نساء تدور الكاميرا من حولهن في شوارع دمشق - الحرب، بينما يحاول في شريطه الأول اكتشاف لغة تشكيلية، في محاولة لتقديم وثيقة عن بلادٍ غرقت في دمائها منذ خمس سنوات ونصف. «السفير» التقت المخرج محمد عبد العزيز وكان معه الحوار الآتي.
عملتَ في فيلمكَ الأخير «الرابعة بتوقيت الفردوس» على مستويات سحرية من الثقافة السورية. برأيك هل تستطيع السينما اليوم أن تقدّم قراءة مختلفة لما يجري في سوريا الحرب؟
أعتقد دائماً بأن السينما قادرة على الغوص في زوايا حادة لقراءة أي حدث كان؛ لا سيما إذا توافرت الشروط الموضوعية لتحقيق ذلك، لكن للأسف أغلب النتاج السينمائي السوري في السنوات الخمس المنصرمة لم يستطع الفكاك من موجة الاستقطاب الحادة التي عصفت بالشارع، وتحديداً بالسينمائيين الذين لم يعزلوا أنفسهم عن هذه الموجة، بل منهم من سبق عوام الناس وفرز ذاته ونتاجه إلى هذه الجهة أو تلك، جاء أغلب هذا النتاج بصبغة برامجية أيديولوجية؛ وبدا وكأنه منصة لإبراز الموقف السياسي للفريقين من الحدث. هنا بالذات تهشّمت اللحظة السينمائية بكل أبعادها لمصلحة التعبوية التي طمرت سينمائية الفيلم ونزاهة السؤال والبحث والتجريب والاختبار، حتى تكاد أن تقول بلا تكلف بأن أفلام السنوات الخمس هذه بكل أطياف مشتغليها تكاد تكون شاهد زور على ما حدث في البلاد.
قحط سينمائي
لكن لماذا حدث ذلك برأيك؟
هذا القحط لم يقتصر فقط على السينما، بل كان سمة عامة لمجمل السنوات الخمس على كل المستويات إن كانت فنية أو سياسية؛ فعلى صعيد الموسيقى مثلاً أغلب التجمعات والتظاهرات كانت تردد وتقتات على أغاني الحرب العراقية ـ الإيرانية بسبب مرجعيتها المذهبية؛ ولم تنتج أغنية أو موسيقى يمكن أن تتوقف عندها، وقس على ذلك على صعيد الرواية والشِّعر والمسرح .التجربة الوحيدة التي كانت لديها ملامح ناضجة ومتفردة هي تجارب التشكيليين و «الكوميكس» حيث كان هناك وميض خافت ينبثق من جهتهم. طبعاً أتفهم أن البعث ومواليه منذ بداية الستينيات حتى اللحظة لطالما كانوا يعانون من ضائقة جمالية، ولكن كيف لثورة حديثة أن تنتج اللاشيء والهلام إلى هذا الحد؟ في ظل الحروب يحدث دائماً أن تنبثق من بين ثناياها التيارات والاتجاهات الجديدة على كل الأصعدة؛ إلا حربنا هذه فلم ينبثق منها حتى الآن سوى القبح والانحدار وأطنان من الثرثرة الجوفاء.
أثار فيلم «الرابعة..» العديد من الأصداء بعد عرضه في صالات دمشق، لا سيما ما تعرض له في الصحافة من انتقادات بلغت أحياناً حد التخوين. هل تطلعنا أكثر على موقفكَ مما حدث؟
عندما يكون هناك تحليل نزيه يأخذ الطابع المعرفي والنقدي، أستطيع الانخراط في المماحكة حتى النفس الأخير ليتدفق من هذه المماحكات والتراكيب الناجمة عنها ماهو مفيد سينمائياً ونقدياً، أما عندما ينجرف الآخر نحو الشتائم والتخوين، فعادة ما أتجاوز الأمر بصمتٍ شديد، فلا أعلق ولو بحرفٍ واحد، كما أنني لا أحمل في قلبي ذرة ضغينة، وهذا ما حدث فعلاً. أتفهم وأتقبل برضا وسعادة طيش وتجهم الآخرين.
انتزع فيلمُكَ «المهاجران» الجائزة الذهبية في مهرجان الكاميرا العربية بهولندا، وحتى الآن لم يعرض هذا الفيلم جماهيرياً داخل سورية؟
لا أعلم، ربما في المستقبل القريب سيعُرض. الزمن السوري الآن هو زمن سائل وأنا نفسي أعوم فيه دون ذاكرة. قد تمرّ سنوات على حدث ما وأنت لا تزال تحتفظ بانطباعٍ طازج عنه. أعتبر أن الفيلم عُرض جماهيرياً وبهذا نتجاوز سوية إشكالية السؤال! لدي انطباع عميق أن «المهاجران» قد أُنصِف.. لذا هذا كافٍ ووافر. بالنسبة إليّ على الأقل.
واقع السينما اليوم
كيف تقيّم اليوم واقع السينما السورية، لا سيما في ظل توجهها إلى تناول الحرب التي لا تزال دائرة حتى الآن..؟ البعض يقول إنه من المبكر تحقيق أفلام عن ذلك، فيما يعتبر البعض الآخر بأن ما يقدمه بعض المخرجين الجدد يعتبر جرأة فنية لافتة في تناول حدث لم ينقضِ بعد؟
كما ذكرت آنفاً.. ليس من الضرورة انقضاء حدث ما للاشتغال في مناخاته، خاصة أننا في منطقة الأحداث فيها تتطلب أحيانا قرونا عدة لانجلاء تبعاتها، فإلى الآن ما زالت تأثيرات «سقيفة بني ساعدة» وحزّ رأس «الجعد بن درهم» وتقطيع أوصال الحلاج غير منقضية تماماً، فهل سننتظر قرونا أو حقب عدة لتحقيق أفلام عن الحدث السوري؟ أعتقد أن الأمر برمته متعلق بسؤال العدالة؛ عدالة الحياد؛ عدالة خلود وسرمدية الحرفة وأنسنتها عند المخرجين ومموليهم، بالانفصال عمّا هو شخصي وتعبوي وبالتمسك والوقوف في زاوية الحياد والحياد هنا بمعناه الفني والإشكالي وامتلاك اللحظة الإنسانية العليا؛ بعيداً عن أية تأثيرات ستحدُّ من مصداقية ونبالة اختبار السؤال السينمائي، وبالتجرد المطلق عن كل ما يفسد كيمياء الفيلم. هذه المعطيات وغيرها ليس من السهل توفرها في ظل الحروب والانجرافات الحادة بنيوياً في المجتمعات ذات التنوع الكبير كما في الحالة السورية، لهذا كان من النادر أن تصطدم بمادة فيلمية نزيـهة تهز وتعيد صياغة مفاهيمكَ حول العنف المتدفق من قلب هذا المجتمع.
أنت من المخرجين الذين بزغ نجمهم قبيل الحرب بتقديمكَ أشرطة تصدت لتشريح الشخصية السورية واستشرفت الكارثة لا سيما في «نصف ملغ نيكوتين» و «دمشق مع حبي»... كيف ترى اليوم إلى هاتين التجربتين بعد ست سنوات من الأحداث المؤلمة في بلادك؟
شخصياً لا أميل إلى المُخرج المُنجّم، والذي عادة يروّج بأنه استشرف كارثة ما عبر تجاربه السينمائية. أعتقد أن الفيلمين اللذين ذكرتهما وكل ما حققته لم يأتِ من صلب ما أراه وأبحث عنه سينمائياً. وبالرغم من النجاح النقدي والجماهيري للفيلمين المُنتجين من قِبل شركة الشرق؛ ولكن أيضا وأيضا ها أنا ذا ألفظهما كأي أبٍ عاق.
سينما السيرة
كنتَ من السينمائيين الذين بدأوا بعيداً عما أسس له كل من محمد ملص وعبد اللطيف عبد الحميد وأسامة محمد وعمر أميرالاي في عملهم على سينما السيرة أو ما عُرِف بسينما المؤلف. برأيك هل نستطيع أن ننظر إلى الجيل الذي تنتمي إليه كطليعة جديدة في الفيلموغرافيا الوطنية؟
لا أعتقد. حتى اللحظة لم تظهر تجربة تتجاوز أو تضاهي أفلاما مثل «أحلام المدينة» و «نجوم النهار» و «ليالي ابن آوى» و «الليل» و «رسائل شفهية» و «الطوفان».. لذا مصطلح طليعة جديدة في الفيلموغرافيا الوطنية مصطلح فضفاض جداً عن كل ما أنجزه الجيل الذي أنتمي إليه. كان من المفترض أن نبني سينما حقيقية على هذا البنيان الصلب الذي أرساه هؤلاء السينمائيون الطليعيون، ولكن لم يحدث ذلك لأسباب أيضا يُفضّل عدم الخوض فيها كون ذلك غير مفيد معرفياً ولا سينمائياً.
وماذا عن «الطواسين» فيلمك الجديد؟
«الطواسين» اقتراح سينمائي لفكّ وثاق الأدب والإنشاء عن هيكلية الفيلم. إنه بحث في السينما لترسيخ ملكوت الصورة وتخليصها من كل البنى الكلاسيكية التي تتحكم بها الحبكة والسرد الممجوج والحوار. خصوصية هذا الاقتراح الذي يأخذ الطابع الحداثوي يستمد مشروعيته من مواد سابقة كنتُ قد صوّرتها، وكانت جزءاً من أفلامي الأولى، فدمجتها مع مشاهد جديدة صوّرتها حديثاً. أهميتها أيضا تأتي بطريقة وذهنية التركيب ليتدفق من هذه التراكيب الجديدة شمولية المعطى السينمائي عبر التمعن فيه.