2016/03/07
السفير - سامر محمد اسماعيل
امتداد العرض السينمائي على مساحة أكثر من فيلم؛ كما هو الحال مع شريط (سوريون ـ إنتاج مؤسسة السينما) لـباسل الخطيب؛ يجعل من الصعب تقييم هذا الشريط دون النظر إلى ما قدّمه المخرج السوري ـ الفلسطيني في فيلميه السابقين: «مريم» و «الأم» إذ تبدو هذه الثلاثية السينمائية محاولة لافتة لإنجاز وثيقة عن واقع المرأة السورية في ظل حرب لا زالت تدور رحاها بلا توقف منذ خمس سنوات؛ فماضي القصة المحذوف في الشريط الأحدث للخطيب يمكن العثور على مرادفاته في أحداث تجربتيه السابقتين؛ إذ أبدل الخطيب الصراع التقليدي لشخصياته الهاربة من الموت بصراع وجودي يتلاقى فيه القاتل والقتيل؛ بعيداً عن أسلوبية السرد السينمائي المتدفق في جهة واحدة، فذاكرة الحرب لم تعد قادرة على إحصاء الضحايا بعد التباسات وضعت الجميع في حربٍ مع الجميع.
المكان في «سوريون» بدا هو الآخر وكأنه قد تناسل من أشجار وبيوت وبحيرات المكان نفسه في فيلمَي «مريم» و«الأم» عبر وحدات مونتاجية لاهثة نحو نهايات محتومة؛ لتطل علينا من جديد قسمات ريف سوري في شتاء دائم، فيطلعنا على حكاية الصحافية (ريم ـ كاريس بشار) التي نراها في مهمة تغطية صحافية لجهة إعلامية غامضة، لا تلبث أن تدخل هي الأخرى في تصوير لعبة موت مزدوجة، وذلك بعد تعرفها إلى (يوسف ـ محمود نصر) الذي يعيش هو الآخر عزلته الغرائبية بصحبة كلبه الغامق بين أطلال بيته المهدّم؛ حيث ينجح ـ يوسف ـ في إنقاذ الصحافية الشابة، بعد تعرّض السيارة التي تقلّ طاقمها الصحافي لطلقات قنّاص تقضي على حياة مرافقها الشاب (ياسر ـ جابر جوخدار )؛ في حين نتعرّف قُدماً على عائلة هذا المنقذ؛ والذي يظهر في أولى مشاهد الفيلم وهو يجهز على (ضحيته ـ بسام البدر) في لعبة تبادل أدوار مميتة بين (القاتل) و(القتيل)؛ لنكتشف أن هذا الرجل اقتنع نهائياً بفكرة الأخذ بالثأر ممن قتلوا له ابنتيه وزوجته ودمّروا له بيته الجبلي.
فخ الطفولة
في المقابل يدفع مخرج الفيلم عبر سيناريو كتبه بنفسه إلى تعقيد أكثر درامية للحدث؛ عبر مكيدة سينسجها عميل المجموعات المسلحة (عزام ـ محمد حداقي) ضد (يوسف)، وذلك بعد أن يتمكن الأول من إقناع والد الثاني (أبو يوسف ـ رفيق سبيعي) أنه قد وجد له ابنه (أيوب)؛ الجندي المفقود في صفوف الجيش السوري بعد شهور على اختفائه في بوادي الرقة إثر سيطرة (داعش) عليها؛ وليقوم (عزام) حال حضور الأب العجوز إلى المكان المتفق عليه بتسليمه كرهينة للمجموعات الراديكالية، بغية ابتزاز ابنه وتسليم نفسه للجماعة الإرهابية التي يعمل لمصلحتها.
هكذا يقع المخلّص الشاب في فخ من صُنع رفيق الطفولة؛ قبل أن يكون في مواجهة مع مَن قتلوا أفراد أسرته؛ ففي إحالة ذكية لتشابك الظروف الاجتماعية وتعقيداتها المحلية؛ ندخل مباشرةً إلى فداحة الخسارات التي يدفعها أبناء الوطن الواحد، ليتكشّف الصراع ويظهر بين عائلات باتت تخلص ثاراتها الدفينة؛ بعد أن أزاحت الحرب كل المقاييس الأخلاقية، وجعلت الأحقاد الشخصية محرّكاً لاضطرامها وتصفية خصومها بذريعة سياسية.
في المقلب الآخر نتابع حبكة موازية لهذه الأحداث، تجسّدت في قصة حب قديمة بين (يوسف) وابنة عمه (زينة ـ ميسون أبو أسعد) المصابة بمرض عضال؛ والتي تصرّ رغم مرضها على علاج شاب فقد صوابه مما شاهده من فظائع الموت اليومي؛ لتتوّج شريط حياتها بنزهة على متن قارب؛ الحلم الذي يحققه لها (يوسف) بعد أن يجهز (أمير داعش ـ علاء قاسم) على أبيه المسنّ؛ ففي مشهد شبه ختامي من الشريط حاول (الخطيب) اقتراح نهاية لافتة، يكون فيها الحبيب الغابر حاضناً لجثة امرأته الميتة على متن (مركب نشوان) يتهادى فوق طحالب نهرٍ راكد؛ جنباً إلى جنب مع لقطة الأب الميت الممدّد في عراء الغابة السورية.
تجاور بصري للمصائر والمكائد ترك للفيلم مساحة لعب على أساليب سرد مركّبة يبدو فيها الجانب التأملي للصورة متقدماً على سواه؛ فالمونتاج (أحمد عبد الله) هنا كان أحد مفاتيح (الخطيب) للاقتراب أكثر فأكثر من حياة الشخصيات، معاينتها في عزلتها والإطلالة على عالمها الداخلي وتمزقاتها الموحشة عبر لقطات قريبة ومتوسطة وضعت المُشاهد وجهاً لوجه مع الصراع الذي تحياه تلك الشخصيات، سواء مع محيطها الدموي أو حتى مع أحلامها المنكفئة أمام أعينها وهي ترى الخراب يعمّ الأنفس، قبل أن يغزو ويدمّر البيوت والمدارس والطرقات العامة.
جنوح الخيارات
في مستوى آخر تبدو خيارات (الخطيب) هذه المرة أكثر جنوحاً نحو توليف مكان سينمائي؛ تكون الإحالة من داخله نحو عالم رمادي صقيعي وموحل؛ تتأطر فيه الوجوه مثلما تختبئ وراء جدرانه الخرِبة الصور والذكريات لعائلات شتتتها الحرب، وتركتها نهباً لكاميرات صحافية بلا قلب؛ فلقد حاول مخرج (سوريون) أن يسجل تلك العلاقة السرية بين العالم الفيلمي والواقع؛ بين الفوتوغراف الصحافي البارد والمحايد إزاء الحدث من جهة؛ وبين لقطات متناوبة لكاميرا سينمائية حاولت عبر إيقاع لاهث أن تدوّن ما لم تدوّنه كاميرات التغطيات التلفزيونية المباشرة من جهةٍ أخرى؛ فالصور هنا لا تعني شيئاً؛ إنها كما قال الأب في حوار مع المراسلة الصحافية: (ما يعنيني الناس التي في الصور وليست الصور عينها).
يمكن اعتبار (سوريون) محاولة لتقديم نسخة مصدّقة عن الحرب؛ وصورة اشتغلت عبر تقنية التفتيت المونتاجي المتواصل لبلوغ جماليتها القصوى، مقدمةً قراءتها للمجزرة من داخلها؛ حيث يجري تخليص الضحية من الاستمرار في منطق الانتقام والأخذ بالثأر بعد فقدانها التام للثقة بالآخر، ومنعها من أن تصبح جلاداً جديداً؛ ليترك الفيلم في النهاية فسحة من أمل خافت بإعادة باب البيت السوري المخلوع إلى عتباته المحروقة.
(دمشق)