2015/07/11
الأخبار - وسام كنعان
بموازاة الكارثة التي ضربت دمشق قبل أكثر من أربع سنوات، راحت صناعة الدراما تتهاوى نحو الانهيار بسرعة كبيرة، تفوق بأشواط المدة التي استغرقتها حتى ازدهرت. المشكلة أنّ السياسة هذا الموسم دخلت بشكل عاصف ضمن كواليس الفنّ الاستهلاكي أيّ الدراما التلفزيونية، وتحوّلت القضية لما يشبه توزيع مكافآت لمخرجين وممثلين أطلقوا مواقف متباينة خلال سنين حرب عجاف تكفّلت بهدم سوريا.
هكذا، صار اسم المخرج نجدة أنزور ماركة مسجّلة ليس بالطريقة التي عرفناه بها عندما صنع أيقونات الدراما «نهاية رجل شجاع» (كتابة حسن يوسف) و«أخوة التراب 1» (كتابة حسن يوسف)، إنّما بشكل آخر تمثّل بقدرته الفائقة على تلميع صورة السلطة. كما ردّ الجميل لمن منحه الكثير من الامتيازات. على أي حال، قدّم أنزور هذا الموسم مسلسل «إمرأة من رماد» (كتابة جورج عربجي وإنتاج «المؤسسة العامة للإنتاج التلفزيوني والإذاعي » ــ يُعرض على «تلاقي»، وnbn).
وفي العمل نحن أمام كليشهات جاهزة، يعتقد المشاهد لبرهة أنّها أُعدّت في «الإدارة السياسية» أو في «دائرة الإعلام الحربي» بهدف التعبئة العامة والانسجام الكلي مع الإعلانات الطرقية التي تملأ شوارع الشام وتشجّع على الالتحاق بالجيش والقوات المسلحة! لكن هذه المرّة بلغة بصرية فقدت بريقها عندما أُدلجت مسبقاً، ورسمت أهدافها السياسية قبيل البدء بإنجازها.
فالسيّدة «جهاد» (سوزان نجم الدين) بطلة العمل تمثّل مطلع الإخفاق الذريع، بسبب محاولات مبالغة لفريق الماكياج لتصغيرها لتتناسب مع عمر الشخصية المكتوبة. وكان يُفترض أن نلاحق هزائم المواطن السوري وقهره من خلال «جهاد» التي فقدت ابنها في تفجير، فإذا بنا أمام ادعاءات ومصادفات رتيبة وإيقاع مملّ لسيدة متصابية تتصرّف بطريقة غير مفهومة.
تلك الطريقة لا يمكن أن تكون مبرّرة وفق منطق الدراما حتى لو كانت الشخصية تعاني من عقد نفسية متراكمة، لأنّ أحداث العمل تدور في فراغ لتصل إلى مفترقات خطابية لـ«جهاد». خصوصاً عندما تحاضر بأخيها، بعدما يقرّر الذهاب إلى الجيش من أجل الذود عن أبناء وطنه، وهو ما يتكرّر مع والده عند لحظة وداعه لابنه. فيما ينشغل المسلسل في غالبية مفاصله بهم تبرئة إحدى الفئات السورية مقابل تجريم البقية، لتبقى مصادفة لقاء «جهاد» بضابط يصغرها بسنوات (سعد مينه) خارجة عن السياق الذي يمكن للمتابع هضمه.
في مقابل ذلك، لم تكن عودة «شيخ المخرجين السوريين» هيثم حقي بعد انقطاعه سنوات عن مهنته الإبداعية بأحسن حال مما فعله صاحب «الجوارح» (تأليف هاني السعدي وإخراج نجدة إسماعيل أنزور). فالعودة التي انتظرناها وتمثّلت في مسلسل «وجوه وأماكن» (كتابة هيثم حقي وخالد خليفة وغسّان زكريا، يُعرض على «العربي»)، سرعان ما خيّبت آمالنا. خرج بعض نجومها على قناة «العربية» قبيل عرض المسلسل، وتباهوا بأنّ مسلسلهم هو أوّل تجربة تنجز بعيداً عن مقصّ الرقيب البعثي؟!
طبعاً، يعرف كل من يتابع الدراما السورية أنّ أعمالاً عدّة سبقت هذا المسلسل وأُنجزت بمنأى عن أيّ رقابة رسمية منها «الولادة من الخاصرة 3» (تأليف سامر رضوان، وإخراج سيف الدين سبيعي) و«غداً نلتقي» (اخراج رامي حنا الذي تشارك الكتابة مع إياد أبو الشامات). هذا إذا تجاهلنا عن قصد حقيقة السقف الرقابي المعقول الذي كان يُتاح لصنّاع الدراما قبيل تدهور الأوضاع في البلاد.
تتوالى في «وجوه وأماكن» مشاهد متقنة من حيث جودة الصورة وجهود مهندس الديكور هجار عيسى وفريق الإنتاج الذي قاده فهر الرحبي بتجهيز لوكيشنات تقنع المشاهد بأنّ الحدث يدور في سوريا رغم تصويره في تركيا.
لكننا نلمس على مستوى حكاية العمل الأولى «وقت مستقطع» بنية مكرورة في قصة مهندس كمبيوتر (جمال سليمان) متزوّج من أستاذة جامعية (يارا صبري) يقع في شِباك غرام تنسجه له سيّدة مطلقة (سوسن أرشيد)، وهي ابنة لواء متقاعد (عبد الحكيم قطيفان)، لكنه لا يزال متنفّذاً لدى الدولة. لنشاهد على خلفية القصة نشرات أخبار تعبُر سريعاً لتعلن اندلاع شرارة «الربيع العربي»، عندما أحرق التونسي محمد البوعزيزي نفسه. وسرعان ما تصل رياح الحرية العاتية إلى دمشق، فيُعتقل ابن المهندس ويتواسط له اللواء فيُطلَق سراحه. ثم تعتصم شخصيات العمل عند جُمل تكرّر مرّات في كل حلقة لتُفيد بأنّ «النظام يطلق الرصاص الحيّ على المتظاهرين السلميين»، وهو عنوان أُعيد آلاف المرّات على الشاشات، لدرجة أنّه أصبح بديهية حفظها العالم عن ظهر قلب. وفي الوقت الذي جرّب العمل تصنيع حكايات المظلومين الذين التحقوا بـ «الجيش الحرّ»، خرج هزيلاً أمام واقعية قصص خَبِرها السوريون جيداً. هكذا، لم نفهم ما هو المبرّر من العودة إلى زمن وثّقه الناشطون بمئات الفيديوهات المصّورة، وصُنع عنه عشرات الأفلام الوثائقية، وظلّ واقعاً يتفوّق على أيّ مخيّلة خصبة. ربما يكمن السرّ في رغبة شركة «ميتافورا» المنتجة للعمل والمولودة حديثاً، والتي يترأس مجلس إدراتها الفلسطيني عزمي بشارة، بلمّ شمل المعارضين للنظام السوري لصناعة دراما باهتة ليست أفضل حالاً من بعض الأعمال التي تنتجها «المؤسسة العامة للإنتاج التفزيوني». بل هي تمثلّ وجهاً آخر لعملة واحدة نشهد زمن تدهورها.
مع ذلك، يتمكّن السيناريست والمخرج زهير قنوع من صناعة مسلسل لطيف هو «شهر زمان» (يُعرض على nbn، و«سوريا دراما»، و«تلاقي»). رغم إنجازه قبيل رمضان وعرضه الأوّل على «mbc plus» المشفّرة (الأخبار3/3/2015)، يبعث العمل رسالة من دمشق يقول صنّاعه فيها «نحن بخير رغم ما يسوّرنا من موت».
يمكنهم ببراعة استثمار الغليان وتوظيفه بسلاسة في مادة تلفزيونية تُحاكي الواقع بهدوء وبمعافاة من الانفعال والتطرّف. في المسلسل نلاحق مصائر نماذج سورية بأبعادها الحقيقية، بما فيها من سلبية وإيجابية لأشخاص قرّروا التشبّث بالبلاد رغم المِحَن. كما نشاهد أمثلة حيّة عمن استسلم للظرف الراهن، وجلس يتحسّر منتظراً انتهاء الأزمة، وعمّن راح يتلقّف طاقة إيجابية حتى من رائحة البارود وقرر الانهماك في حياته، والتركيز على مستقبله. إضافة إلى بداية طرح خط درامي يغوص في عمق أحلام شابة تأمل صناعة سينما تسجيلية علّها توثق للأحداث الموجعة.