2015/04/01
السفير - سامر محمد اسماعيل
يحيلنا فيلم محمد عبد العزيز «الرابعة بتوقيت الفردوس ـ المؤسسة العامة للسينما ـ سينما سيتي» إلى تلك الأفلام التي تحاول تسجيل صورة الواقع في ديمومتها الزمنية؛ ولإيمان مطلق بضرورة تطوّر لغة السينما الوطنية؛ والتخلص من شاعرية لا تركن إلى الواقع؛ بقدر ما تحاول أن تسجل موقفاً منه.
من دون التخلّي عن الصورة يحاول «عبد العزيز» في هذا الفيلم الذي كتب السيناريو له بنفسه؛ أن يحقق سينما تأويلية للحدث السوري الدائر منذ أكثر من أربع سنوات؛ حيث تكمن دلالة هذا الشريط «120 دقيقة» ليس في صورته وحسب؛ إنما في موقف صاحب «دمشق مع حبي» تجاهه.
سبع قصص
الشريط الأكثر ملامسته لتفاصيل الجرح السوري يمزج بذكاء بين سبع قصص تتقاطع عبر لعبة مونتاجية فائقة الحساسية؛ لا من باب تكثيفها لحكايات شخصيات الفيلم وحسب، بل عبر سيناريو محكم تدور أحداثه في يوم واحد من حياة هذه الشخصيات في مدينة دمشق.
«الفردوس الدامي» الذي تطل منه الأفعى في أولى مشاهده بحي ساروجا الأثري، ينقلنا من بيت محمد علي العابد (1867ـ 1939) أول رئيس لسوريا، تأخذنا إلى دمشق الزمن الراهن عبر شخصية موسيقي سوري تعرض للاعتقال لمدة خمسة عشر عاماً بعد وشاية أقرب أصدقائه به.
بيانو يحترق وأفعى صفراء تلتفّ على قضبان البيت المهجور؛ افتتاحية رخيمة سوف يعود إليها مخرج الفيلم في مشهد ختامي رفيع المستوى. نتعرف أكثر فأكثر على حكاية العائلة الكردية السورية المحمولة على عربة «حنتور» تقليدي، الزوج العامل وزوجته المريضة وطفلهما والجد المُسِّن يتحدثون بلغتهم الأم كسابقة في تاريخ السينما السورية، جميعهم يجرّهم حصان هجين يحتضر في رحلة آلام لا تنتهي وهم في طريقهم إلى المستشفى. المكان الذي أفاد منه محمد عبد العزيز في مقاطع قصصه السبع؛ ونسجها على نول سينمائي؛ فكأن المدينة جميعها دخلت إلى مستشفى.
الفتاة المصابة بالسرطان والتي تجمعها قصة حب مع الموسيقي الخارج من معتقله، تكاد تكون عموداً فقرياً للفيلم. مشاهد أنيقة من قُبلاتٍ مخنوقة وحارقة بين كل من «سامر عمران، ونوار يوسف» على سرير الجرعات الكيماوية، تنتهي باقتحام الأب ـ «أسعد فضة» القادم من عالم السلطة ولجنتها القضائية العليا إلى غرفة ابنته المريضة.
أداء استثنائي لكل من الممثلين «يوسف وعمران» ينتهي بلكمة على وجه العشيق، ومواجهة صادمة بين الفتاة وأبيها، حيث ينتحر هذا الأخير بدوره، تاركاً ملفات عن قتلى الحرب لمصير مجهول في سيارته السوداء، مع صرخات المرأة الحامل التي تلد على قارعة الطريق من دون أن تتمكن من وصول.. المستشفى.
سيعود «عبد العزيز» ثانية إلى هذا «المستشفى» مع وصول العائلة الكردية إليه بعد موت حصان العربة المحتضر، ليقرّر الزوج «محمد آل رشي» بيع كليته من أجل تدبّر مصاريف العلاج لزوجته «رنا ريشة»؛ حيث يطل الشريط من خلال رحلة الزوج للبحث عمن يشتري كليته على قاع المدينة وأشرارها القابعين في ساحاتها الخلفية، أسواقها، ومتاهات لصوصها الصغار؛ وصولاً إلى مشهد سينمائي مؤلم يُقتل فيه الشاب الكردي طعناً بالسكين في أحد أنفاق المدينة؛ من دون أن يتمكن هو الآخر من الوصول للمستشفى؛ تماماً كحصانه الذي يدلف له في نهاية النفق.
راقصة الباليه ـ «يارا عيد» في أوبرا «الأفعى والرمان» هي الأخرى تنتهي قصة حبها الخاطفة مع الجندي على الحاجز، عندما تتعرض سيارتها لتفجير إرهابي؛ ليغير القدر طريقها من المسرح إلى غرفة العناية المشدّدة. لتعود «يارا» للرقص في مشهد ختامي، مزيلةً عنها أنبوب الأوكسجين، متملصةً من مِقصات أطبائها. نحو جسد مدمّى يرقص على أرضية موشاة بحبات الرمان المفروطة مساحة حلم يستعيرها «عبد العزيز» ليسرد لنا تاريخ يوم من حياة هذا الفردوس ـ المستشفى.
الحراك
تحضر أيضاً قصص الشباب المشارك في الحراك عبر كل من «كنان حميدان وهلا بدير وغفران خضور». فهم بدورهم يجمعهم المستشفى في زيارتهم لصديقتهم «نوار»، وتفرقهم مآلات أحلامهم الثورية وسط مناكفات حب وجنس تنتهي في مشهد اعتقال الفتيات الثلاث بعد وقفة احتجاجية في سوق شعبي.
بدوره يعجز الشاب «مجد فضة» بإقناع أبيه عامل الرافعة بمغادرة البلاد؛ مثلما لا يستطيع أحد إقناع المرأة الذاهبة لحضور حفل لعبد الحليم حافظ على مسرح المعرض بأنه مات، والمسرح لم يعد موجوداً.
لا يسلّم مخرج الفيلم مفاتيح الفهم بسهولة، فمن خلال تدفق الصور يجري قدماً نحو صوره المتقاطعة، كلمة السر فيها هي حفل موسيقي راقص بعنوان «الأفعى والرمان» لتتكشّف مصائر هذه العائلة السورية الحزينة الذاهبة إلى المستشفى.
صورة فيلمية تكتسب سينمائيتها من تعبيرها عن الحياة نفسها وليس عن الأفكار، فهي في «الرابعة بتوقيت الفردوس» تصف الحدث وتترك الزمن يعيش داخل الصورة من خلال شخصيات تخلق عالمها الداخلي الخاص؛ معيدةً بناء وخلق واقع موازٍ تبرز فيه خبرة المخرج في إدارة بارعة لممثل امتلك أدواته بعيداً عن الفهم التلفزيوني.
تأتي خاتمة الفيلم مع الموسيقي الذي يتعرّى من ثيابه أمام صديق العمر «زهير العمر» بمثابة تقليب مواجع؛ وذلك بعد اعتراف رفيق النضال بأن هو من وشى به للسلطات؛ فتتفرد الكاميرا بمواجهة صادمة وموجعة، ليعيد المعتقل السياسي مشاهد تعذيبه، دافعاً بصديقه إلى سلوك التعرّي ذاته.
مغادرة المستشفى تأتي مع خروج الفتاة المريضة بالسرطان، لتحقق نبوءة عشيقها الموسيقي، بسقوط ثمرة كباد دمشقي عليها وحبيبها في آخر مشهد يجمعهما عاريين في بحرة ماء دمشقية تطفح بجسديهما الطافيين على آخر كادر من فيلم ساحر جمع بحرفة بين الثعبان والرمان..