2015/02/17
ردة سينمائية قوامها فنانون شباب يعملون على تأسيس حساسية مغايرة للمخيلة التي طبعها التلفزيون في ذاكرة جمهورهم؛ أو ما تبقى منه في ظل جنون الدم؛ ففي بلدٍ تسيّدت المسلسلات الرمضانية واجهة فنونه البصرية لسنواتٍ طويلة؛ تبزغ فيه اليوم تجارب الفيديو آرت، وتيارات أخرى من موجة السينما العربية المستقلة؛ فتتداعى هذه التجارب شبه المعزولة عن بعضها بحكم الحرب الدائرة على امتداد الأقاليم السورية؛ إلى ما يشبه نفيراً عاماً لصياغة أشرطة بنكهة الكارثة؛ أشرطة تحاول تكريس السينما في الحياة السورية من جديد إذا ما استطاعت إلى ذلك سبيلاً.
من هنا تحاول الذائقة السينمائية الجديدة تلمس طريقها كأعمى يقوده الحب نحو الفن السابع. «سينما حتى الموت - يقول المخرج الشاب سيمون صفية الذي حقق مؤخراً فيلمه (جوليا - منح مؤسسة السينما) ويضيف: «نحن السينمائيين الجدد أشبه بنمل الصحراء؛ فعلى الرغم من كل ما حدث ويحدث؛ وكل العوائق التي يصعبُ تفنيدها؛ جعلتنا السينما كنمل الصحراء، نملٌ سينمائيٌ سميكُ القشرةِ؛ طويلُ الأقدام؛ يمشي تحت الشمسِ الحارقة؛ يبحثُ عن الزادِ في أكثرِ الأماكنِ وِحشةً ورعباً؛ لكنه يستمر ببناء البيت، الفرق الوحيد بيننا وبينه أنه لا ملكةَ لنا، فلم تردعنا قسوة الواقع ومازلنا نحاول».
كلام يدعمه زياد القاضي المخرج الشاب الذي حقق هو الآخر في بداية الحرب السورية أول تجربة سينمائية قصيرة، بعد تجارب له في المسرح واللوحات التلفزيونية؛ وليشارك فيلمه passage في مجموعة من مهرجانات دولية كان آخرها مشاركته في مهرجان الإسكندرية؛ حيث نال هناك تنويهاً عن تميّزه الإخراجي من لجنة التحكيم - فئة الأفلام القصيرة عن دول البحر الأبيض المتوسط. يقول القاضي عن هذه التجربة: «passage لم تكن الفكرة فيه هي الرسالة فقط؛ بل تقصدتُ إنتاج الفيلم بأدوات بسيطة جداً من الكاميرا إلى الإضاءة؛ وحتى المونتاج؛ فكانت تكلفة الفيلم أقل من ثمن مخزن رصاص نسمع صوته على مدار الساعة في شوارع مدننا.. لعلني كنت أريد أن أقول لشباب يمتلكون الفكر والموهبة وينتظرون جهات مازالت خجولة في إنتاجها السينمائي؛ أن الرسائل التي تحملونها يجب أن تتحدّى الظروف لتنهض». لكن هل تؤسس تجربة (القاضي) لتيار من الأفلام تتمّ صناعتها بميزانيات منخفضة في ظل ظروف أمنية صعبة للغاية؟ سؤال يجيب عليه سيمون صفية معقباً: «لقد تمّ توريط الفن في السياسة بشكل سطحي ومبتذل، منذ بداية الأحداث ونصب الكاميرا في الشارع أشبه بتركيب مدفع دوشكا!؛ أجل أنت عدوّ الجميع حتى يثبت العكس، لا أحدَ يدفع ليرة واحدة لصناعةِ فيلم إلا إذا كنت تحكي لهُ رأيه كما هوَ، لقد باتت السينما أداةً ليس وسيلة؛ أداة للتعبير عن رأي لا حساسية أو خيار. خذ مثلاً إبراهيم البطوط خرج في مقابلة على الـ « you tube» ليقول لنا: (لم تبق هناك حجة لكم يا عشاق السينما.. كاميرا ديجيتال ومجموعة من الأصدقاء يستطيعون صناعة فيلم)... كلام صحيح - يعقب صفية ويتابع: «لكن تبقى هنا الموافقة الأمنية على التصوير هي الأمر الأصعب؛ وهيَ ما نتمنى أن تصبح بمتناول الجميع، فمما الخوف؟ لن يخرب الوطن بفيلم؛ إبراهيم بطوط وأحمد عبد الله في مصر هم أسطع الأمثلة على إمكانية صناعة أفلام الميزانيات المنخفضة، التجربة هي عماد الفن والوسيلة الوحيدة لتطويره ولنا الحق في التجريب؛ والتجريب هنا ليس بالضرورة صناعة فيلم تجريبي؛ فهذا ما نبحث فيه، الرغبة الجامحة في الفن في السينما هي المحرّض الوحيد لنا؛ وصناعة فيلم يحكي أسئلتنا؛ هواجسنا؛ أحاسيسنا نحن الجيل الجديد هوَ الهدف الأكبر؛ لكننا نحاول وسنبقى نعيد الكرّة، الحلمُ يسكننا؛ لا مفرّ؛ سينما حتى الموت» .
آلاف الأفلام تنتظر
كلام يُعلّق عليه المخرج زياد القاضي الذي يحضّر في هذه الأيام لتصوير فيلمه الجديد (شمس - روائي قصير - مجموعة شاميرام) إضافةً لفيلم وثائقي بعنوان (دروب - شاميرام): «(دروب) أحاول من خلاله محاكاة موضوعة الموت المجاني الذي يستهدف الأطفال السوريين يومياً في دمشق وحلب وحمص وسواها؛ فأسعى مع فريق الفيلم أن نوثق من خلال قصة درامية كل ما يحدث على الأرض السورية؛ وذلك لما رأيناه من ضرورة لصنع أفلام كهذه؛ التصقت سينمانا بالواقع؛ لكن الكثير من واقعنا مغيّب عن الخارج ومن الضروري أن تلعب السينما دورها حالياً؛ فنحن نصوّر واقعنا من خلال السينما التي كان لها دور كبير بالنسبة لنشر ثقافات الشعوب واتجاهاتهم السياسية؛ أصلاً السينما كانت دائماً في لبّ السياسة؛ فوثّقت ونشرت الكثير من الأفكار كلٌ حسب توجّهه؛ فلا يُخفى على أحد الارتباط السياسي بين هوليود والسياسة الأميركية مثلاً؛ وكيفية شدّ المتلقي وتلقينه مفاهيم مختلفة مدروسة مسبقاً؛ لذا أتمنى من الجهات المعنية بالسينما أن تتخلص من خجلها وتنطلق؛ فعلى هذه الأرض آلاف الأفلام التي تنتظر.. «فقط أمسك كاميراتك أو قلمك وتجول في الشوارع السورية لتصنع أفلاماً - يعقب القاضي مضيفاً: «ربما سيقف أمامها البعض ليجيب عن أسئلة لم يكن يعرفها؛ فآثار الحروب ستزول يوماً؛ وربما يكتب التاريخ عنها كما يشاء، السينما وحدها تستطيع تصوير الحقيقة»... عبارة تعلّق عليها المخرجة الشابة زهرة البودي، فتقول: «الفن في زمن الحرب..! عبارة لم أفهمها قبل الأربع سنوات الأخيرة؛ إذ وجدتُ نفسي فيها أؤمن بأن الفن الحقيقي يولد في زمن النزاعات.. الزمن الذي يُلهمنا جميعاً لنكون أقوى».
في ظلّ محترفات سينمائية كثيفة بإلحاحها على طرح مقولاتها ورؤاها المتباينة حول ما يجري على الأرض السورية؛ أطلقت المؤسسة العامة للسينما مشروع دعم سينما الشباب العام 2011، ليصل مجموع المُنح التي قدّمتها هذا العام إلى ما يقارب السبعين فيلماً؛ حققه خمسون مخرجاً ومخرجة شابة؛ وذلك عبر تقديم المؤسسة لهؤلاء التجهيزات التقنية والفنية؛ إضافةً إلى مبالغ مالية صغيرة كأجور «350 ألف ليرة سورية - ما يعادل تقريباً «2000 $» تُدفع لصاحب المشروع. زهرة البودي نالت مؤخراً منحة من المؤسسة العامة لتحقيق فيلمها الوثائقي الأول بعنوان «سالي» والذي تسرد لنا قصته فتقول: «استوقفني تقرير الأمم المتحدة الأخير عن وضع الطفولة في سوريا، والذي أشار إلى أن الصراع السوري هو واحد من أخطر الأزمات التي تواجه الأطفال في العالم اليوم، فلقد أدّى هذا الصراع لتدمير حياة أربعة ملايين طفل وتعريض جيل بأكمله للخطر. من هنا كانت البداية مع شريطي الأول (سالي)؛ حيث يتحدث الفيلم عن طفلة نازحة من مدينة الرقة إلى مدينة اللاذقية؛ فتتعرّض لحادث أليم أثناء تهجيرها وأهلها، لتبدأ حكايتي مع هذه العائلة التي شرّدتها الحرب».
المهند كلثوم حقق بدوره مؤخراً فيلماً وثائقياً بعنوان «ياسمين» يصوّر واقع الأطفال وعائلاتهم الذين ذاقوا مرارة تجربة النزوح الجماعي؛ ليكون هذا الشريط جنباً إلى جنب مع دورات سينمائية كثيفة حقق (كلثوم) آخرها في دمشق عن صناعة الفيلم الوثائقي برفقة عشرين شاباً وشابة، بينما أنهى مؤخراً الكاتب حسن م. يوسف دورة في كتابة السيناريو السينمائي مع مجموعة من محبي هذا الفن في مدينة اللاذقية؛ والتي تشهد هي الأخرى الدورة الثالثة لمهرجان «خطوات 21- 26 المسرح القومي» وبدعم من المؤسسة العامة للسينما ومجلس الشباب السوري. عشاق الشاشة الكبيرة كانوا أيضاً وعبر مجموعة من المخرجين الهواة على رأس ورشتهم في غاليري (مصطفى علي) بدمشق وبالشراكة مع كل من المخرجين محمد ملص وسمير ذكرى والروائي خليل صويلح؛ حيث شهدت أيام هذه الورشة نقاشاً جدياً وقلقاً عن مستقبل السينما في البلاد تحت وقع القذائف والانفجارات. الورشة التي جمعت سينمائيين من جيل المخضرمين والشباب تركت الباب مفتوحاً لتجارب مماثلة ترفع راية السينما في بلاد التلفزيون.