2014/01/11
تشرين- طارق مصطفى
إن من أحد تعريفات الإنسان هو «القيمة الإنتاجية» التعريف الذي يقودنا وبشكل منطقي إلى الحقيقة التي تقول: إن اختفاء القيمة ليس له إلا نتيجة واحدة، وهي اختفاء ملامح الفرد وتالياً ملامح المجتمع،
وهنا وبتوسيع تعريف الفرد ليشمل جميع قيم الحياة، نجد غياباً شبهَ تام لقيمه وتالياً لكينونته ووجوده، لأن إنتاج القيم هو مسؤولية الطبقة المتوسطة في المجتمع التي تشهد انقراضاً تدريجياً - ممنهجاً على الأغلب- في العصر الحديث، وفي دول العالم الثالث تحديداً.. ما يجعلها غير قادرة على إنتاج أي نوع من أنواع القيمة، في ظل لهاثها للحفاظ على ما تبقى من جسمها الفيزيولوجي، أي لهاثها وراء اللقمة، التي تُلهيها عن إنتاج دورها الحضاري والاجتماعي والثقافي، وفاقدُ الشيء لا يُعطيه.
بقليل من الاستطراد، يمكن القول إن غياب القيمة لا يشمل فقط القيمة المادية من باب عدم التناسب بين الدخل و (ألف باء الحاجة)، حيث الأخيرة أعلى وأقسى بكثير، لا بل يتعداه إلى غياب القيمة الأخلاقية، الناتج عن غياب المنتوج الأخلاقي أصلاً،(ثقافة، فن ، مدنية، وحتَّى تديُّن).. ما يجعل البلاد هدفاً واضحاً و دريئةً جليَّةً لرصاصة الاستهلاك والاستيراد (بكل المجالات)...القاتلة، ولعله من الصحيح في مكان أن تكون سلسلة الغيابات هذه لها المنشأ ذاته ألا وهو الغياب الأول... غياب وجود الفرد كقيمة إنتاجية مادية..
غياب المؤسسة كحالة فعالة قادرة على التبني والتجديد والخلق، وأخذ العينات الصحيحة من المجتمع القادرة على إنتاج منظومتها الأخلاقية و الاقتصادية الوطنية الحقيقية السليمة والمعافاة، القادرة على صد سيل الثقافات المستوردة ابتداءً من النكتة ووصولاً إلى العلاقة مع المرأة والوطن والله مروراً بأبجديات معنى الوجود الإنساني والاجتماعي وتالياً الوطني: الأغنية، القصيدة، المسرح، السينما، الإعلام.
الوطن هو ذاكرتنا وذاكرتنا المستقبلية في الجغرافيا، وجودنا الدائم والحيوي الديناميكي - الإنتاجي والعاطفي- في مكنونات وممنوحات هذه الجغرافيا، وإن هذا الوجود هو المنتج الحقيقي لفلسفة الذود والحيف، وهو المُشرِّع الضمني لنخوة الجندي وسبطانة الشرف حينَ تَجِيشُ الأعداء؛ فلو لم يكن الشهيدُ شاعراً.. لما ذهب إلى المعركة.
إن الأمثلة عمَّا ذُكِرَ أعلاه كثيرةٌ جداً لكن ها هنا مساحة لأكثر الحالات رواجاً و شيوعاً في الذهن والذاكرة والسوق ألا وهي الدراما التلفزيونية السورية؛ حيث لا يمكن لعاقل أو حتى من ليس له عيون، أن يغيبَ عنهُ أن الدراما السورية عبرت وقطعت أشواطاً متميزة ...على صعيد الصناعة والسوق والرواج في آن، ولا يمكن إنكار أعمال عظيمة لقامات في هذا الفن، إنتاجاً وتمثيلاً وإخراجاً وتقنياً فنياً (تصويراً، إضاءة، مونتاجاً).. والحق يقال تلك الأعمال أثرت وتؤثر بشكل عال في الذاكرة و الذائقة في العمر السوري الحديث لكن يُلاحظ الآن، أن الدراما تحولت إلى مُلحق من ملحقات الطقس الرمضاني، لأن جهاز التلفزيون في حد ذاته في هذا الشهر يتحول إلى ملحق من ملحقات الطقوس الغذائية التي تتم فيه، وأخذت تتحول بدورها لمجاراة طقس ما و خطاب ما، على الأغلب يُملى عليها من الممول، أو من المشتري، خطاباً و ذوقاً، ويستثنى هنا بعض الأعمال ذات الإنتاج المحلي (العام والخاص) التي قدمت شكلاً لائقاً ومضموناً قابلاً للنقاش.
لكن وفي كتلة لا يستهان بها من الأعمال السورية الدرامية، نجد الاستسلام للتسطيح الآنف الذكر في المقدمة...لا بل ليس الاستسلام، بل التسطيح المقصود.. والمتعمد والمبالغ به، ولعل هذا طبيعي.. لأن المرء عندما يتبنَّى مقولةً وشكلاً، هما في الأصل ليسا له، فعلى الأغلب تجده تائهاً متلوناً، لا تَلبث قدماه أن تتبللا بساقية، حتى نجده يقلِّدَ صوتَ البحر.
بالعودة إلى موضوع القيم و غيابها، يمكن القول إن الدراما كفن ، وبعد أن استحقت مسؤوليتها أمام المجتمع، كمصدِّر مهم للقيم الشكلانية والمعنوية، نجدها قد تراجعت عن مكانها الحقيقي، وهنا قد يقول قائل بمجموعة من التسويغات، مثل الذهاب لوضع المسؤولي على الجمهور المشاهد، أو التذرع بأن الدنيا تغيرت وأصبحت أسرع...، إلى ما هنالك من مسوغات توضع مبدئياً للتسويغ، ونهائياً (وهذا من غرائب أزمنة المَسخ) للتفاخر والتبجح كإكسسوار من إكسسوارات(الحضور النجومي)..
شخصياً، لا أعتقد أن الجمهور الذي كان يمتحن وديع الصافي، ليعطيه إذن العبور للتسجيل في استوديوهات إذاعة دمشق، جيناته قزمة لدرجة أن أبناءه أو أحفاده غير قادرين على التمييز بين الغث والسمين، وفي حال من الأحوال إن كانوا قد وقعوا في فخ الاستسهال والتسطيح، فإن هذا في الأصل ناتج عن غياب المصدر الحقيقي للقيمة والذائقة والرونق، الأمر الذي يؤدي إلى وقوع المجتمع في هوة الفراغ الأخلاقي والثقافي وعلى كل المستويات.
أما الحديث عن الزمن بأنه زمن السرعة والتقانة، فآه يا زمن السرعة ما أبطأك!