2012/07/04
سامر محمد إسماعيل لاشك أن عودة " أسامة غنم" إلى هذا النوع من النصوص المهجورة كنص الإيرلندي صموئيل بيكيت تعتبر من المغامرات التي ستحسب له، لاسيما أنها تجربته الأولى في الإخراج المسرحي، لكن مالا يمكن تجاهله هنا هو خيار المتحفيّة التي تناول المخرج من خلالها أخطر نصوص بيكيت، وأعني هنا عدم شغله على الصيغة الدراماتورجية للنص، والحفاظ على حذافير النص الأصلي في الترجمة التي لم تشتبك مع الشيفرة الثقافية المحلية، أي نقل النص المسرحي من بيئته الأصلية إلى البيئة السورية بمفردات جمهورها، كون العرض المسرحي هو قبل كل شيء سيقدم للجمهور، الجمهور المعني الوحيد بنبض الحياة المسرح، واتصاله اتصالاً كاملاً وفق سياقات اجتماعية وثقافية معينة مع ما يقدم له، ولذلك يأتي خيار العربية الفصحى للعجوز كراب بمثابة مضاعفة للمسافة النفسية بين الجمهور والشخصية المطلقة على الخشبة، هذه المسافة التي كانت تفصل بشدة بين عالم كراب الحزين المفجوع على تاريخه الشخصي، وبين مقاعد المتفرجين، ومع أن بيكيت كتب هذه الدراما الإذاعية بالعامية، والتي كانت هيئة الإذاعة البريطانية تصر عليها كخيار للاتصال بأكبر شريحة ممكنة من جمهورها، إلا أن "غنم" أصر على اللغة الفصحى معللاً ذلك بعلاقة كراب بالأدب وبآنا كارنينا، المعادل النسائي للوشيا جويس "ابنة جيمس جويس التي هامت حباً ببيكيت لكنه صدها عنه بقسوة" إذ لم تقترح الصيغة الفصيحة هنا أي تماس مع الجمهور، إلا من خلال رتابة ساحرة اشتغل عليها المخرج مع الممثل "آل رشي"؛ هذا ما سيضعف من قابلية التلقي، ويجعل المتفرج عرضة لخطبة ميكرفونية ذكرتنا بأصوات ملقني "كاسبار"؛ المسرحية التي كتبها النمساوي "بيتر هاندكي" عام 1968 بعد عشر سنوات كصدى أولي لشريط كراب الأخير، إذ وصفها هاندكي آنذاك كأعظم نص مسرحي في القرن العشرين، مروجاً لثورته الجديدة، منتقلاً باللغة المسرحية من لغة لا تعبر إلا عن لواعج الشخصية وصراعاتها النفسية، إلى لغة تصبح مضموناً للدراما المسرحية، تصير واقعاً درامياً مضاداً يدمر الشخصيات ويسحقها، أو يدفعها إلى التوافق من خلال تركيبات لغوية معطاة مسبقاً. بيكيت أيضاً لم يكن أصيلاً إلى هذا الحد، فقد تأثر تأثراً بالغاً بشروح الناقد "فريتز موتز" لأعمال جويس في كتابه "نقد اللغة" الذي كان من المؤلفات الأولى التي أشارت إلى قصور اللغة كأداة لاكتشاف الحقائق الميتافيزيقية، وكأداة لنقلها، فكراب هو الاستعارة الأغلى على قلب بيكيت من جهة الأسلوب والمضمون معاً، أسلوب اللغة التي صارت مسرحاً في حد ذاتها، ومضمون حبه للوشيا-إكو وجسدها المجروح بالتوت البري الذي يستعيده كراب صوتياً على هيئة استمناءات مطولة. هذا سيقودنا إلى أن الحكاية عند بيكيت لم تكن عن ماضي عجوز يقوم باستذكار أيام فتوته، بل إلى المسرح الصوتي الذي من الممكن أن يقترحه نص الشريط الأخير، مسرح اللغة الذي سيكتب فيه كل من يونيسكو وآداموف وهاندكي فيما بعد أهم وأصعب نصوص اللامعقول، مسرح العزلة الوجودية التي أصر مخرج العرض على إبقائنا في صورته المترجمة والقديمة، صورته الخمسينية التي أعقبت الحرب العالمية الثانية، من غير الاشتغال على تقاطعات الشيفرة الثقافية، أو محاولة صياغتها دراماتورجياً، بمعنى آخر إنشائها درامياً، الشيفرة الثقافية المنقولة في عرض الشريط الأخير لم يشأ الدكتور "غنم" أن يركب لها إحالات اجتماعية محلية، خشية الصدام ربما مع منظومة العقائد والأخلاق في مجتمع شرقي، ربما لن يحبذ جمهوره الاستماع إلى كلمات نابية ولحظات حميمية لرجل يحتلم على خشبة المسرح، وهذا أعتقد أنه مبالغة غير واردة، لأن الجمهور الذي يخشى عليه "غنم" من هكذا إحراجات لن يكون موجود أصلاً، بدليل أن جمهور المسرح في سورية جمهور نخبوي، تتكرر وجوهه عند كل عرض، وهو جمهور واعٍ ولديه استعداد جيد لاستيعاب أية مفاجأة أسلوبية أياً كان نوعها. على كل حال وبالعودة إلى الشكل الذي اشتغل عليه المخرج والممثل في آن معاً على نص اعتبر من النصوص الأكثر واقعية لرائد مسرح اللامعقول أو العبث كما يطيب للبعض أن يسميه، سنجد أكثر من مستوى لقراءة أكثر من فصاحة، ليس في استخدام اللغة التي لا تعني شيئاً هنا، بدليل تقديم وترجيع كراب لشريطه وفق مزاجية قسمت العرض إلى أزمنة متباعدة.. فهناك الماضي المتعدد لأشرطة مصنفة في علب ذات أرقام، الحاضر بصفته شريطاً جديداً لذكريات قادمة، والمستقبل بوصفه عدم مطلق لا يرجى منه سوى الخزي والهرم، وشيخوخة القلب والعقل معاً؛ سنلاحظ أن حضور شخصية كراب العجوز كان فصيحاً أيضاً، زيه وملابسه الغريبة، ومكياجه ذو الأنف الأحمر، ناهيك عن حركاته، وتعامله مع الأشياء، جاء ذلك ضمن الرتابة كمنطق نجح مخرج العرض في تطويعها حركياً لصالح رؤيته الفنية العالية، وتقديمها كرمز للرجل البريء الذي يحاول أن يتغلب على محدودية اللغة وضحالتها، وقصورها في التعبير عن آلام كراب المسن، الرجل الطاعن في ذكرياته وفي امرأته الغائبة- المستحضرة عبر الصوت، من خلال فونيمات وصواتم، تنويتة كتبها بيكيت كي تكون اللغة نقيضاً للحركة والفعل، إذ لا حركة ولا فعل، الحركة هنا مجرد غيابات في العتمة يشرب خلالها كراب خمره السري، ليعود إلى الحدث-الصوت الذي يتم مَنتجته في كل مرة يصر فيها هذا العجوز على استحضار أشباح وهوامات الماضي، الصوت المقفى في نبرته التي تشبه أنواع النبرات التي اختارها هاندكي لمحو ذكريات وماضي شخصية كاسبار، أصوات الساعة الناطقة وملقني شرائط تعليم اللغة الأجنبية، العنف الدرامي الذي يكتنزه صوت كراب هنا ليس هامشياً، بل في صلب التجربة التي اشتغل عليها كاتب "نهاية اللعبة"، لذلك كان حرياً بمخرج العرض ومُعده أن يستمع جيداً إلى "حفيف اللغة" كما يعبر عنها رولان بارت، المستويات الشعرية للصمت الذي تركه بيكيت خلفه، الصمت كنطق يمفصل الجمل و يأخذها إلى أقصى إمكاناتها الدرامية، هذا كان سيتم لو عرف المخرج أن اللغة هنا ليست ذات قيمة تعبيرية عن شخصية ساهمة أمام تسجيلات العمر، بل الكلام هو الفيصل الوحيد، الكلام هنا هو الشيفرة التي يجب الاشتغال عليها، وليست الصيغة اللغوية التعبيرية، ليست معادلات الألفاظ ومقاربة معانيها، وموائمة هذه المعاني لمقاصد كراب كشخصية اعتيادية تستعمل اللغة للتعبير، بمعنى آخر ليست اللغة التقليدية التي تعبر عن دواخل الشخصيات وقصصهم الخاصة، بل اللغة-الكلام الذي تصير هي ذاتها مادة جوهرية للدراما، تصير الدراما نفسها، مسرح اللغة التي أسس له بيكيت الذي كان مفتوناً بأفلام السينما الصامتة. إن بيكيت الذي تذكر لوشيا جويس يصر على استرجاعها زمنياً عبر كرّ الشريط إلى مقطع اللقاء، إلى تأوهات حقل القصب، إلى عيونها المغمضة ومن ثم المفتوحة كخطين نحيلين تحت أشعة يوم من أيام انقلاب ربيعي رائق، إنه يريد العذوبة ذاتها، السكون والحركة ذاتها في قارب يقلبهم على مياهه من جنبٍ إلى جنب، لكن اللغة لا تريد إلا أن تقدم جملها المرتبة منطقياً، أنساق من صوت يروي قصة حدثت وانتهت منذ زمنٍ بعيد، هذا كل شيء خاصةً عندما يعجز كراب عن الاستمرار في كتابة مذكراته على شرائطٍ أخرى فتتخلخل الجمل الجديدة، وتميل نحو نوع من الهذر غير المجدي، ما يدفعني للقول أن المخرج لم يأخذ دوره الأصيل في مسرحية غاية في الصعوبة، فدوره هنا مع بيكيت ذي الكراهية الخلاقة ليس في توضيب سينوغرافيا مسرحية، أو العمل على تنضيج الشخصية وميزانسيناتها، وإنما دورٌ يتلخص يتطلب من أن يكون سيمولوجي رفيع المستوى قبل أن يكون أي شيء آخر..