2013/08/12
عفاف يحيى الشب – الوطن السورية
لا أعتقد أن شعباً في العالم حاصرته معاناة متعددة الفصول والأبواب وخربشت على سماواته الزرقاء أهداف وأهداف كما حصل مع الشعب السوري الذي كان يعيش هناءه على الرغم من وجود غيوم ما حالكة كانت تعتم أحياناً صباحات البعض الهنية الودودة وترهق تحدياتهم العنيدة وربما تسرق لقيماتهم القليلة وما ذلك من إشكالات لا تكاد تخلو معظم المجتمعات منها..
ومع ذلك فإن هذا الشعب عرف بالأصالة واشتهر بالنبالة وألقت الشهامة عباءاتها العفوفة على أكتاف تصرفاته العتيدة، فما من سوري عرف عنه أنه حاقد ولئيم يتمنع عن دفع أيادي العون إلى كل محتاج ومظلوم، ولا يوجد سوري لا يرمي بنفسه إلى التهلكة دون تفكير لإنقاذ أي ملهوف ويائس ومحروم.. وذلك رغم ولادة متغيرات سلوكية جديدة مغايرة لطبائعه الإنسانية المجيدة التي تشرب عصائرها من أيام الأصالة يوم كانت كلمة «وامعتصماه» تهز العروش وتأخذ المعتصم إلى قتال المعتدين في مناطق الثغور ويحقق الانتصار في موقعة «عمورية» الشهيرة.. هذه المتغيرات السلوكية سلباً هي التي عززت انحراف مسارات الإنسان عموماً، فنأت به عن جادات الحق المشرقة كالضياء وعن عيون الصواب البراقة التي لا تنام عند صاحب كل ضمير فعال... المهم أن تلك الانحرافات جاءت حتماً من تلك التشاركية العالمية المنبثقة عن شاشات فضائية وما تتضمنه من برامج وأفلام تلفزيونية تغاير كل ما تعلمه شعبنا السوري وما ورثه من المنظومة الاجتماعية السوية التي حملت إليه عبر الدهور أعرافاً ذات قيم عالية ونقلت له على متن الأزمان بكل مصداقية غالية حكايات أصيلة عن الأجداد غنية بالمعاني الدسمة والكثير من العبر والعظات الكريمة الخالدة، وكل ذلك كان يأتي تحت مظلة الدين الإسلامي الرحيم والعظيم الذي جاء مفعماً بكل ما يحتاجه الإنسان من أجل حياة كريمة آمنة لا امتهان فيها ولا خوف.. هذا الدين كان حريصاً على بناء الإنسانية جمعاء واعتبار أن الإنسان أخ للإنسان لا يظلمه ولا يخذله بل يجيره ويسعفه.. ينصره من كل قهر ويغنيه من أي فقر وما إلى ذلك من تعليمات تفوق كل ما اشتغل عليه الفرنسيون لإطلاق وثيقة حقوق الإنسان والتفاخر بها حتى الآن... هكذا عاش السوريون وتلك كانت بعض ملامح من مناقب السوريين مهما كان حتى ولو جار الزمان..
لمحة عن معنى كلمة الدراما وأصلها
حدثنا جرجي زيدان في «الأعمال الكاملة» له عن فن التمثيل فقال: إن فن التمثيل من الفنون القديمة الذي اشتهر به اليونان وإنه على الرغم من عملية تبادل الثقافات بين العرب وغيرهم من الأمم والذي تم على مستوى كبير إلا أن التمثيل لم يكن من مفردات هذه التبادلات وإن «الدرام» أي فن التمثيل كان عند اليونان يتناول الروايات الأدبية الراقية ويمثلها بشكل يختلف عما نشاهده هذه الأيام، وهكذا إلى أن دخل (نابليون بونابرت) مصر وكان في رجال حملته الفرنسية رجلان من أصحاب الفن مع كبار الموسيقيين.. وفي مصر بدأ هذان الرجلان بتمثيل بعض الروايات القديمة كما قام الجنرال الفرنسي «مينو» بإنشاء مسرح للتمثيل سماه «مسرح الجمهورية والفنون».. بعدها سارعت سورية إلى اقتباس فن التمثيل وظهر رجال اهتموا بهذا الفن الذي أصبح يتناول الروايات الأدبية والقصائد الشعرية منهم «مارون النقاش وسعيد البستاني وأديب اسحق و...» ومعظم أعمالهم كانت في البداية عبارة عن روايات مترجمة.
الدراما السورية
من المعروف أن بدايات الدراما التلفزيونية السورية بدأت تقريباً مع وصول التقنية التلفزيونية إلى سورية وهكذا ومع بداية الستينيات أصبح في سورية أعمال تلفزيونية «أبيض وأسود» تحظى بالمتابعة واشتهرت أسماء ممثلين اجتهدوا في ذاك الزمان بأدوات بسيطة لطرح أعمال مازال بعضها يظهر حتى اليوم ويحظي بالإعجاب.
رمضان والدراما
من الثابت درامياً أن الدراما السورية بدأت تأخذ دورها وتتفوق على الدراما المصرية في المواسم الرمضانية، ومع انطلاق بعض المخرجين إلى أعمال لها صبغة معينة مثل أعمال الفانتازيا التي تناولها بمهارة الأستاذ (نجدت أنزور) وأعمال بيئية نهضت على أكتاف المخرج (علاء الدين كوكش...) وغيره، وهكذا إلى أن أصبحت الدراما هاجساً قوياً لأصحاب المال بما سار ببعض الأعمال إلى السفاهة والهزلية والاستعانة برؤوس أموال غير سورية «خليجية» ليبقى هناك رجال عملوا بإصرار على إنجاح الدراما الرمضانية بالتعاون مع كبار الكتاب في تلك المرحلة الذهبية للدراما السورية.. ومع ذلك كنت أكتب دوماً في ضرورة الانتباه إلى مفرزات هذه الدراما لكونها تقدم للصائم في شهر رمضان الكريم.
الدراما السورية الواقعية
في البداية أقول بكل ألم وإصرار تنزف لأجله الحروف وتستغيث الكلمات بالسطور بأن تفتح لها مساحات ومساحات كي تنقل إليها ما يعتلج في نفوس السوريين من حزن على ما أصاب سورية الخضراء من بلاء يصح معه القول التالي: إن أقوى «درامات» العالم لا تستطيع أن تعادل الدارما السورية الواقعية التي عاشها الشعب السوري بقلبه وكيانه.. بأبنائه وخلانه.. بأشجاره وجباله وأنهاره.
.. نعم إن أي كلام لا يمكن أن ينقل بعضاً من فصول مأساة الشعب السوري ولا يستطيع أي عمل تلفزيوني أن يقنع أي مشاهد بأنه الأقوى مما عاشه هذا السوري من أحداث جسام بلا مؤثرات صوتية ولا خدع خيالية ولا أفكار تشويشية... إن ما شهده المواطن السوري من نزيف دماء ومقتل أطفال ونساء وشباب وأبرياء وتدمير مبان ورموز دينية لتقشعر له الأبدان وتجف معه مياه القلوب.. وفي الحقيقية إن أغلبية الشعب السوري لا تدري ما السبب المباشر لهذا الطوفان الدموي الممزق للأمان النفسي والروحي والمادي مخترقا ساعات الليل وثواني النهار... نعم هذه الدراما السورية الدموية التي أثارت الرعب وجيشت التوتر والقلق لم تتوقف عن الأداء منذ نحو العامين، والسوري تحت خيام الموت يدعو إلى أن يتوقف العالم أجمع عن إخراج تلك الدراما المأساوية التي نالت من امتدادات سورية كلها من الشمال إلى الجنوب ومن الشرق إلى الغرب... هذه الدراما الواقعية المعيشة كانت مؤلمة تعجز عن وصفها أبرع الأقلام وتنهار لمتابعتها القلوب والعقول ويصعق الوجدان.. ويبكي.. أجل يبكي الحق بدموع لها صوت يزأر كالرعد الغضوب مع دوي يذبح كل فؤاد خاشع ولهوف لأنه من المستحيل أن يكون السوريون هكذا وهم من أطيب الشعوب وأسبقها إلى التحضر والتمسك بالإيمان.. نعم إن أهل سورية أهل كرم وضيافة ورجالات شهامة وإغاثة ولطالما كانت بلادهم السورية موطن كل خائف ونازح ولاجئ ومهجر.
الدراما التلفزيونية تحت ظلال الأزمة
هنا وبعد كل ما ذكرت جاءت الدراما التلفزيونية هذا العام مرتبكة في بعض الأعمال.. غير متفاعلة مع مزاجية الشعب السوري ولا مع تطلعاته بل مخترقة دون احترام حتى لأدبيات الشهر الفضيل وجروح كل الذين فقدوا أبناءهم ومنازلهم وأموالهم لتظهر بعض الأعمال وكأنها تغرد خارج السرب حيث الاستعراض الفاخر لأزياء الصبايا ومكياجهن وحيث الاستعراض المثير في بعض المشاهد والحكايا بما لا يناسب الواقع وربما لا نرى مثل هذه المبالغات الفاضحة حتى في الأعمال الغربية... إن الدراما التلفزيونية كما هو معلوم أصبحت سجل الأمة وذاكرتها الثقافية التي سوف يقرؤها الجيل القادم ويوازن بين ما يسجله المؤرخون وما يراه على شاشات التلفزيون من أعمال تضعه حيال أحياء كاملة يأكلها الفساد الأخلاقي بكل معاييره من تناول المخدرات والاجهاضات والاغتصابات وطالبات جامعيات يذهبن إلى الجامعة في «الشورت» .. ناهيك عن موظفين يغشون لأجل الرشاوى وزوجات تطلق أزواجهن في سبيل الحياة الأفضل بطرق لا شرعية ولا قانونية.. حتى بعض الأعمال الشامية جاءت ملوثة بالأحقاد والسرقات والثأر مع نمطية مملة لنساء ثرثارات يرتدين الملاءات السود ولا يعرفن إلا الطبخ والذهاب إلى الأعراس وإطلاق الزغرودات والتعامل بالسحر وما إلى ذلك من سخافات ناهيك عن مشاهد ساخنة لانتهاكات سياسية وأمنية وعنف ضرب.... قد يقول قائل: إن هذا موجود فعليا بالواقع.. وأقول نعم إن بعضاً منه موجود ولكن أن نعمم تلك المفاسد «ونفلفلها» ونستعرضها في ظرف غير طبيعي ربما قد يسهم ذلك في تأجيج المشاعر التي هي مؤججة أصلا وبالتالي لا يقدم علاجاً لما يعرض من أوجاع بما يعني أن اختراق الدراما التلفزيونية لأخلاق السوريين وطرحها المجسم لمعاناتهم فيها مغالاة مستباحة حتى لو كانت في غير هذه الأجواء ومدعاة لتشفي الآخرين.. ومن هنا جاءت بعض الأعمال لا ترتقي إلى وجع المواطن السوري ولا تقدم له الراحة النفسية ولو قليلاً ولا تسجل للأجيال تاريخاً غير مجرح بالمبالغة والإسفاف كما تخدش مشاعر المسلمين الصائمين... لتبقى هناك أعمال تناولت قضايا قريبة من الواقع كشفت الستار عن بعض الأوجاع والمخاوف والآلام... تلك الدراما المدعومة مادياً من سورية كان الأجدر بها انتقاء أفضل النصوص والتركيز العالي على الأهداف مع الأخذ بعين الاعتبار كما قلت مشاعر السوريين ومعاناتهم.