2013/07/15
ثناء خضر السالم – الوطن السورية
كما لا يمكنني أن أتعامل بحياد مع منظر المطر المنهال من السماء، لا يمكنني أن أكتب عنك بحياد. صباح الخير سيّد المسرح أبصرتُ أملاً وفرحاً يشعّ من عينيك المملوؤتين حياة وحيوية فقلت يجب أن أكتب... استجمعت ما تناثر من أفكاري فوجدت اللغة ناقصة...
لكنّ رغبة شديدة في الكتابة كانت تعيدني إلى الورقة لأقول ما أودّ قوله رغم زحمة الحياة البالعة الخانقة.
وما زلت بين رغبة بالكتابة وخوفٍ من ألا تفيك حقك حتى حضرت عرضك الجميل (نيكاتيف) الذي أضفتَ له ما يناسب المرحلة التي يمرّ بها البلد، حينها بدأت الصورة تكتمل في ذهني.
لا أنسى المرة الأولى التي التقيتك فيها، كنت تمضي مسرعاً للقاء الطلاب في مدرّج الباسل، كنت تمشي ببساطة ترتدي ثياباً بسيطة تعتمر قبعة صوفية وتلفّ شالاً لتطرد البرد التشريني. لمّا أوقفتك لآخذ موعداً للقاء ضحكت بنفس البساطة قبل أن تقول شيئاً، ثم أعطيتني موعداً.
يومها أعددتُ أربعة عشر سؤالاً لم أسألك أيّاً منها ووجدتُ نفسي أكتب عن فرقة المسرح الجامعي التي تدرّبها وأستمتع ببروفات المسرح الطويلة الأمد التي كانت تستغرق ساعات طوالاً تصل حتى الست أحياناً دون ملل.
ساعتها باركت فيك التفاني في العمل والطاقة. إنها الطاقة الآتية من حب المسرح، لو عملنا جميعاً بحبّ كيف تكون النتيجة؟ مدهشة. حتماً نبدع جميعاً في الطلاب أي مجال من مجالات الحياة من أبسط عمل إلى أعقده. هذا إن عملنا.
ولمّا أنهيت تحقيقي وأردتُ أن أمشي غرقتُ في زحمة الطلاب، وهم يودّعونك عقب انتهاء الدورة وألم الشوق إليك يلفّهم قبل أن تمضي. هؤلاء الطلاب هم أنفسهم تسبّبوا بقشعريرة بدني ووقوف الدّمع في عينيّ وهم يردّدون لك في طرطوس بعد تكريمك (ستصل السفينة إلى الشاطئ). هم يردّدون ما علّمتهم لكن بحبّ لا يُلقّن تلقيناً بل يخرج من القلب ليملأ حناجرهم ويلوّن طبقة صوتهم فيصلنا صدقهم.
إنّه الحبّ يا صديقي قوّة الحياة منه نعيش وفيه نحيا ونكمل الدرب مهما كان شاقّاً..
لن أغادر بعد الكلام عن المسرح الذي أحبّه حبي للحياة ربّما لأنه الحياة بل هو كذلك، لذا لن أنسى أداءك في حمّام بغدادي (حمّود). فلا يخفى على من شاهد هذه المسرحية الجهد المبذول بدءاً من اللهجة العراقية الحزينة المطعونة التي تشبه العمل، وانتهاء بالانفعالات الحقيقية التي رافقتك حتى بعد العرض فبكيت.
فهل يا صديقي بكيت الجشع الذي جعل الأخ يتخلّص من أخيه من أجل حفنة مال؟ هذا الإنسان الضعيف كدودة المكشّر عن أنيابه كذئب ليفترس متى أتته فرصة والذي يذكّرني ببيت امرئ القيس: عصافير وذبّان ودود
وأجرأ من مجلّحة الذئاب
أم بكيت العراق الذي ذهب بفعل تآمر....!؟. وفهمت لاحقاً من أحد لقاءاتك أنّك بكيت مستقبل الأمة العربية فكما ذكرت إنك تخشى من حمامات عربية تشبه ما حل بالعراق.
أحزنني رؤية الدمع في عينيك، لكن لا يمكننا منع الألم عن قلب إنسان مثلك يُحسّ بآلام الآخرين كما لو كانت هي آلامه وتخصّه، إنسان يحب وطنه فتبكيه فكرة الحمّامات الدموية.
لكنّي أعرف إنسانيّتك ولاسيما لمّا تطفّلتُ على حزنك لأسألك: لم كلّ هذا الحزن في عينيك؟ فأجبتني بنفس الحزن: بسبب التخلّف.
إنه حزن الإنسان العميق الذي ينطبق عليه قول المتنبي: ذو العقل يشقى في النعيم بعقله
وأخو الجهالة في الشقاوة ينعم
التخلّف حقاً مؤلم، ولكن هل التخلّف مؤلم إلى هذا الحد؟هذا ما قلته لنفسي وقتها.
الآن أذكرك وأنا أشاهد الذبح والتمثيل بالجثث والتقطيع الذي يحصل في بلدنا فأتمنّى لو أصرخ صوتاً ملء الكون وأقول: معك كل الحق، إن التخلّف مصيبة وأمر مفجع لا محزن وحسب.
هذا التخلّف اللعين الذي حاربته دائماً لم يمنعك مرضك من الحضور الإعلامي لأجل الوطن. كان لصوتك المبحوح صدىً عميق في نفسي وأنت تدافع عن الوطن وتدعو النّاس للتعقّّل -هذا الصوت الذي بقي جميلا رغم المرض وجماله نابع من نقاء وصفاء صاحبه.
هذا الوطن الذي قلت عنه في نيكاتيف على لسان إحدى الشخصيّات: (حلو كتير وطيّب كتير وموجوع كتير ). كان صوتك قد اختفى تماماً، وكان وجهك يشبه وجه المسرحي العظيم سعد اللـه ونوس في آخر أيام مرضه نحيل وأصفر، ولكنّ وجهك كان يشعّ أملاً وإصرارأ على الحياة.
هذا الوطن الني رمزت له في هذا العرض بآلة تصوير مصوّراً هموم الناس، قماءة الحرب، بشاعة الإرهاب وأفكاراً أخرى عظيمة رسخت في رأسي الذي هو رأسي. هذا الوطن الذي يحبّك كما تحبّه ويفخر هو وأبناؤه بك.
يفتقدك اليوم يفتقد حبّك له ونبضه فيك.
مازلت أكلّمك بضمير المخاطب وقد غيّبك الموت.
ها قد غادرت أيها الإنسان الحقيقي، ودّعك ياسمين دمشق، ودّعتك قلوب الأصدقاء والأحباء.
ودّعناك نحن عشّاق مسرحك، وكنّا ننتظر تعافيك لنحضر الملك لير الذي كنت تقول إنه يحتاج العمر والخبرة. كنا ننتظر العمل والأمل بشفائك يغمر روحنا. نحن عشّاقَ المسرح الحقيقي الذي لا يطبّل ويزمّر، وإنّما يضع يده على الوجع الإنساني ويقول:سلامتكم كلنا موجوعون.
لكنّ الموت كان أقوى رغم إرادة الحياة فيك. رحلت وبقي طلابك ليسيروا على دربك، بقيت مسيرتك الفنية حافلة بإنجازاتك.
نضال سيجري يا صاحب العبارة: صباح الخير، التي كانت تخرج من فمك فتملأ الدنيا أملاً. والتي كانت تترجم إحساسك العالي بالحياة وتمسّكك بها، لم يعد اليوم بإمكاني أن أقول لك: صباح الخير. لقد صرت في عالم آخر، يؤلمني أن استخدم ضمير الغائب وأنا أتكلّم عنك. فغياب جسدك وروحك لا يلغي حضورك. لذا سأقول لك صديقي: تصبح على خير. دام أحبّاؤك بخير