2013/06/21
سناء الخوري – السفير
هكذا إذاً. بات الشرخ المذهبي بديهياً لدرجة لم تعد معها «الجزيرة»، أضخم قناة إخبارية عربيّة، تتردّد في إجراء استطلاعات رأي حوله. استعداداً لحلقة «الاتجاه المعاكس» الليلة، طرح موقع القناة السؤال التالي على المشاهدين: «من المسؤول عن تحويل الثورة السورية إلى صراع شيعي سني؟».
يتبنّى السؤال ضمنياًَ فرضيّة أنّ ما تشهده سوريا الآن، ليس بثورة، ولا بربيع، ولا بحرب أهليّة، ولا بمؤامرة، ولا بحرب كونية. إنّه «صراع سنّي شيعي». حسمتها «الجزيرة» إذاً، بعد سنتين بذلت فيهما جهداً ومالاً، لإقناع العالم بأنّ ما تشهده سوريا ثورة سلميّة وربيع. لم توفّر القناة شبه الرسميّة القطريّة، لا شاهد عيان ولا فيديو لتنسيقيّة ولا أخبار مشكوك في مصداقيتها، لإثبات دعمها «ثورة الشعب السوري ضدّ آلة القتل»، كما تردّد دوماً. لكن تغيّر شيء ما الآن، وبفتوى من برنامج فيصل القاسم، طوّبت «الجزيرة» ما يحدث في سوريا بـ«الصراع السنّي الشيعي».
تريد القناة أن تعرف «من المسؤول عن تحويل الثورة السورية إلى صراع شيعي سني؟» من يا ترى؟ أمام ما يكتنفه السؤال من خفّة، تتخيّل أنّه أشبه باختبار في المعلومات العامّة، وما عليك سوى تشغيل دماغك لتربح المليون. الاحتمالات كثيرة: هل يكون النظام مستفيداً من تحويل الصراع إلى صراع مذهبي؟ أم أنّه طرف خارجي يغذّي النعرات؟ هل حزب الله مسؤول؟ جبهة النصرة؟ الجيش الحرّ؟ فلاديمير بوتين؟ باراك أوباما؟ أمير قطر؟ الشيخة موزة مثلاً؟ فايسبوك؟ يوتيوب؟ هل هم الجنّ والعفاريت؟ ليدي غاغا؟ من «المسؤول» عن الصراع المذهبي يا ناس؟!
أليست «الجزيرة» نفسها مسؤولة؟ ألم تتبنّ القناة سياسة تحريريّة لا تجد ضيراً في ترداد عبارات تحريضيّة مقززة مثل «علوي» و«سنّي»؟ أليس فيصل القاسم من ساهم في إرساء نمط «الأكشن» المذهبي على التلفزيون؟ وتحميل «الاتجاه المعاكس» جزءاً من المسؤولية، لا يحتاج تعمّقاً في الخلفيات، بل تكفي نظرة سريعة على مواضيع حلقاته، لتدرك أنها موجّهة بشكل مريب. مثلاً حملت حلقة الأسبوع الماضي عنوان «هل يريد حزب الله أن يحرق لبنان؟». وقبل أسبوعين، سأل «هل الشرق الأوسط على شفير حرب مذهبية كبرى؟». وبالطبع، في الحلقتين، كان النقاش «راقياً» إلى أبعد الحدود، لا تحريض ولا من يحزنون، فقط أسئلة وإجابات بنبرة مذهبيّة لطيفة، لا تقصد تأجيج الفتنة، بل فقط تنوير المشاهدين على حقيقة العالم!
«من المسؤول عن تحويل الثورة السورية إلى صراع شيعي سني؟»، تسألنا «الجزيرة». ولكي تؤكّد إحساسها العالي بالمسؤولية، ورغبتها فضح المحرّض وتعريته، تقترح للإجابة على السؤال الذي حيّر الملايين، احتمالين لا ثالث لهما: 1ــ الشيعة؛ 2 ــ السنة. تقرر القناة أنّ «الشيعة» و«السنة»، حزبان سياسيان، أو ربما تنظيمان سرّيان، وليسوا أفراداً لكلّ منهما موقف قد يختلف عن موقف الجماعة بالنسبة لسوريا. أخطأت «الجزيرة» في التقويم، وتخيّلت أننا في القرن الأول للهجرة. شيعة ضدّ سنّة، سنّة ضّد شيعة. هكذا إذاً؟ بكلّ هذه البساطة؟ لكن ما مسؤولية القناة إن كان الاقتتال الطائفي أمراً واقعاً؟ تحيلنا لغة القناة القطريّة الفجّة، إلى أسئلة كبيرة في حياتنا العربيّة المعاصرة. مثلاً، هل يحدّد الدين والمذهب كامل هويتنا؟ وإلى أيّ مدى يمكن تذويب خيارات الأفراد وهمومهم وأحلامهم، في صراعات كبرى، لم يختاروها هم، بل اختارتها قوى أكبر؟ الإعلام بات من بين تلك القوى الكبرى، و«الجزيرة» ضمناً. لكن من سمح لهذه القناة أن تقرر ما إذا كان جميع السنة وجميع الشيعة ملزمين بخوض ذلك «الصراع»، أو معنيين به أساساً؟
في حلقة من برنامج «حديث الثورة» بثّتها القناة يوم 13 حزيران الحالي، بحثت المذيعة غادة عويس في خطورة تحوّل الصراع السياسي في سوريا إلى صراع طائفي. كأنّ القناة تتعمّد سياسة تحريرية مزدوجة، فتترك لفيصل القاسم مهمة التحريض، وتفرض على البرامج الأخرى شكلاً أقلّ حدّة من النقاش. لم تنجُ «الجزيرة» من السقطات الأخلاقيّة الكبيرة التي عاشها الإعلام العربي، على اختلاف توجّهاته السياسية، خلال العامين الماضيين. لكنّها حافظت على الأقلّ، على منسوب معيّن من المكر الإعلامي، مارسته باحتراف، ونجحت بإقناع جزء من الشارع، بأنّها تؤدّي «رسالة إعلاميّة نبيلة»، هدفها كشف جرائم النظام السوري، ومساندة الشعب الأعزل. استطلاع رأي فجّ واحد، كان كافياً لتخبرنا تلك الآلة الإعلاميّة الضخمة، أنّها تركت سياسة المكر جانباً الآن، وقررت أن تبدأ اللعب على المكشوف. تقول لنا «الجزيرة» في حلقة «الاتجاه المعاكس» الليلة، إنّها قررت اعتماد الخطاب التحريضي بكلّ فجاجته... علناً.