2013/05/29
سامر اسماعيل – تشرين
تحيل مصممة الأزياء السورية ذاكرتها البصرية كمصممة أزياء إلى شجرة الخرنوب التي عاشت تحتها أيام طفولتها الأولى، فمن هناك تفتحت مدارك الصبية القادمة من بحر اللاذقية على ضراوة اللون وقدرته الأخاذة على تنسيق مقاطع الحياة كأزياء تجعلها الطبيعة الأم أثواباً لأشجارها،
فهاهي تسترجع تلك الأيام التي كانت تختلس فيها النظر لجدتها «حسناء» عندما كانت هي الأخرى لا تقل شأناً عن حفيدتها في تلمس ضوء الخرنوب والإصغاء لسيمفونيته اللونية التي تبدأ بالأخضر ولا تنتهي عند البرتقالي المُصفرّ، أو كما تحب رجاء أن تطلق على مزيجها اللوني هذا لقب «المُعصفر» اللون الذي ستقتبسه لتصاميمها في آلاف الأزياء التي ستحققها في حياتها المهنية كأهم مصممة في بلادها، وذلك عبر سنين من العمل والبحث المتواصلين، للخلاص إلى الصعود بالزي العربي عموماً والسوري خصوصاً إلى مصاف اللوحة التشكيلية، فبعد تخرجها في كلية الآداب، قسم الأدب الفرنسي بجامعة دمشق درست رجاء مخلوف فن تصميم الأزياء في معهد إيسمود بدمشق على يد الفرنسية كارولين زيبليني، حيث تلقت على مدى سنتين علوم هذا الفن الصعب والدقيق، مصغيةً لحفيف الأقمشة وعذوبة تكويناتها.
البداية كانت مع هدم الصيغ المتداولة للثوب وتعشيقه في حياكة ماكرة اكتنفت مزايا زمنية وجمالية، فلقد أدركت مخلوف أن بنية الثوب المقدم في الأعمال الفنية هي في صلب الصورة ومن شروطها الأساسية في صياغة شخصية الفيلم أو العمل الدرامي، ولذلك كان مشروعها التجريبي الأول أثناء دراستها في معهد «إيسمود» على الأزياء الفرعونية، وكيفية إنتاج ملابس حديثة على غراره، تستوحي منه، ولا تقلده، تحاكيه، وتستنبط من روحه عشرات الأثواب المعاصرة، لكن عبر استخدام مزاياه من قبة الصدر وزنار الخصر مروراً بألوانه الفيروزية والذهبية. مغامرة أولى دفعت بها إلى إعداد مشروع أولي لأزياء فيلم «الترحال» لمخرجه ريمون بطرس، إذ كان على هذه الصبية أن تستعيد وصايا أستاذتها في معهد التصميم، فالوحدة اللونية وتناغم الزيّ مع موضوع العمل الفني كان هاجساً ملحاً لتحقيق النجاح، وبالفعل تمكنت مخلوف من صياغة أطروحتها الأولى بنجاح لفيلم «الترحال» من خلال كتابة حكاية الفيلم عبر أزيائه، والتي عملت فيها على إنجاز عدة طبقات وأطوال وأحجام متعددة عن بيئة مدينة حماة، مقتفيةً ملامح الزي الحموي الشعبي، متوخيةً هندسة صحية لهذا الزيّ من خلال دراسة البناء المعماري الخاص به، ما دفع المخرج ريمون بطرس إلى إسناد مهمة تصميم أزياء فيلمه «الطحالب» لها: «كنت أبحث عن نفسي ووجدت ضالتي أخيراً، فلقد بدأت ألتقط موجات سرية وهمسات خفية لتراث بعيد في الزمن، كان عليّ أن أعلن عن نفسي في الطحالب، ولهذا بدأت رحلة بحثي عن طبيعة الزي في مدينة حماة، ولهذا دلفت إلى بيوت المدينة، إلى خزائن نسائها وغرفهن السرية، وكم فتحت صناديقهن القديمة، هكذا صرت منقبة أثرية عن تاريخ الزيّ، أدوّن تاريخه قماشةً قماشة».
أزياء أكلت منها الشمس
هكذا نجحت مخلوف في امتحانها الأول، لتبزغ إلى الوسط الفني السوري، ولتأخذ بعدها فرصةً لاتقل أهمية عندما طلب منها المخرج رياض شيا تصميم أزياء فيلمه «اللجاة» المأخوذ عن رواية «معراج الموت» للأديب السوري ممدوح عزام: «كانت تجربة مهمة بكل المقاييس فالفيلم طرح بيئة الجنوب السوري عبر مصارحة بصرية عالية المستوى، ما تطلب مني جهداً أكبر للبدء مجدداً بالبحث في صناديق جديدة، وتدوين سيرة أزياء سورية أعمل على استقائها من منابعها الأصلية مع التركيز على البناء المعماري لبيوت السويداء، عن تلك البيوت ذات الجدران السوداء الفاحمة وقلوب أهلها البيضاء التي أعطتني ملابسها العتيقة كي أحقق منها أطروحتي عن المكان بكل رضا وحبور»..
مرةً أخرى تترجم هذه المرأة جهدها في تصميم أزياء «اللجاة» فقد عملت في هذا الفيلم على أثواب أكلت منها الشمس ولوحتها، مقاربةً بين طبيعة الزيّ الشعبي وبين الحجر الأسود، لتنال فرصتها التلفزيونية الأولى بعد نجاح لا يرد في دنيا الفن السابع، فهاهو هيثم حقي يطلب منها الإشراف على تصميم الأزياء النسائية لمسلسله «الثريا» جنباً إلى جنب مع المصمم المعروف أمين السيد، وبالفعل خاضت هذه السورية الجميلة تجربتها بثقة، محققةً تصاميم لعشرات الشخصيات النسائية في المسلسل الذي تطرق إلى فترة ما قبل الاستقلال في بلادها، فنقلت روح ذلك العصر، ناقلةً أزياء فلاحي الريف الحلبي ومدينته في بدايات القرن العشرين.
«خان الحرير» الجزء الثاني هو المسلسل الذي جمع هذه الرجاء مع كاميرا هيثم حقي للمرة الثانية، وذلك بعد نجاح متصاعد لهذه الفنانة التي حققت بدأبها وجديتها في العمل اسماً في عالم تصميم الأزياء سواء في السينما أو التلفزيون، لتحقق نجاحاً إضافياً هذه المرة مع أزياء مدينة حلب إلى جانب الزي الغجري، وذلك أيضاً كما العادة بعد رحلة بحث في مرحلة الاستقلال في سورية، وطبيعة ملابس الرجال والنساء في مدينة حلب: «صحيح أنني أقوم دائماً ببحثي الخاص عن الثوب وخصاله وميزاته في الفترة المتعلقة بتاريخ العمل الفني، إلا أنني ألجأ في نهاية الأمر إلى ذائقتي الشخصية لتقديم هوية بصرية للعمل ككل، فما يهمني آخر المطاف هو ذلك اللون الباهت لا اللون المملوء بالضوء والزهو، اللون المعتّق القادر على أن يكون حياً في ذاكرة المشاهد، ولهذا لا أخترع ألواناً لتصاميمي، بل أبحث دوماً عن اللون الخاص بكل ثوب أنتجه الناس».
أزياء الفوارس
الأعمال التاريخية حققت لرجاء مخلوف ما لم تكن تحلم به في أعمالها السابقة، ولهذا تصنف ،عملاً على غرار «الزير سالم»، المحطة الأهم في حياتها: «وجدت نفسي في الأعمال التاريخية، كونها تتطلب البحث ليس في الفترة الزمنية الخاصة بالمسلسل وحسب، بل في طبيعة اللون والقماش الخاصين بالثوب الذي أعمل على تصميمه، أضف إلى هذا ذلك النقص الحاد في صور أزياء التاريخي، لما ترضخ فيه مفهوم الصورة والتصوير من تحريم في التجسيد والتصوير، ولذلك كان عليّ أن أكتفي بالوصف المدوّن في كتب التراث والتاريخ لأزياء مرحلة معينة، لأكمل تصوري الخاص عن طبيعة الأزياء في مسلسل «الزير سالم»، والذي سبق مرحلة فجر الإسلام بسنوات».
مشروع هذه الفنانة كان يتقدم بسرعة، محققاً صيتاً استثنائياً لفنانة استطاعت ترجمة حساسية مختلفة على مستوى تصميم الأزياء وتقديمها لها أمام الكاميرا: «المصادر التي أستند إليها في تصاميمي شحيحة وغير كافية، ومجملها يعتمد على الوصف، لكنني أعترف أنني أشتق الكثير من موضوعاتي من الشعر الجاهلي، هذا الشعر الذي يكشف في أبياته عن روح المرحلة التي كُتب بها لاسيما أشعار امرئ القيس، أتذكر هنا معلقتهُ التي يصف بها كثرة ملابس محبوبته في الهودج في وصال لا نهائي من وصف ثياب محبوبة الشاعر، وملمس أقمشتها». هكذا لا تخفي هذه المرأة ولعها بعملها، فهي تتكلم مع الزيّ، وتحزن كثيراً عندما لا تجد ذلك المنفّذ الجيد لخياطة ما رسمته على ماكيت التصميم: «عندما لا ينجح الخياطون في نقل ما رسمته أحزن كثيراً، لكنني لا أيأس، بل لطالما أعدت تصميم عدة أزياء لعدم قناعتي بها، أو لخطأ تنفيذي فيها، حتى صرت أتحدث مع الزيّ، أحاوره، أجربه على جسدي قبل أن أجربه على جسم الممثل الذي سيقوم بارتدائه، فعلاقتي مع الممثل تأتي عندما أرتاح لتصاميمي التي سألبسه إياها، لكنني في الوقت ذاته لا أطلب من هذا الممثل أو تلك الممثلة أن تلبس الزي على طريقتي، بل بالطريقة التي تناسبه أو تناسبها، أطلب منه أو منها أن يرتدي الزي كما لو أنهم يرتدون ملابسهم التي يرتدونها في حياتهم الواقعية، فلا أريد للزي أن يضايق أو يحد من حركة الممثل، على العكس، أريد قبل كل شيء أن يتناغم مع زيه جسدياً ونفسياً، وإلا أعد أن هناك خطباً ما، وعليّ البحث فيه حتى أتمكن من إصلاحه».
تصف المصممة السورية عملها في «الزير سالم» بأنه كان عملاً عابقاً بروح طفولية خلاقة، وضعها على رأس قائمة الأسماء التي اكتسبت ثقة مضاعفة لطلبها بقوة للعمل في عشرات المسلسلات التاريخية الكبرى، فمن تجربتها مع المخرج محمد عزيزية في كل من مسلسلات «الفوارس» و«الظاهر بيبرس» و«صدق وعده» إلى تجربتها مرةً أخرى مع حاتم علي في كل من «أبواب الغيم» و«أحلام كبيرة» و«الغفران» مروراً بتصميم أزياء مسلسل «فنجان الدم» عن نص عدنان عودة وإخراج الليث حجو، حققت مخلوف حضوراً في أعمال «المودرن» كما في الأعمال الدينية والبدوية، مفتشةً مرةً أخرى عن وثائقها في بطون الكتب وتصاويرها النادرة، إلا أنها تتوقف عند أزيائها التي صممتها لأكثر من عمل حققته مع المخرج باسل الخطيب، بدءاً من مسلسله «هوى بحري» مروراً بمسلسل «عائد إلى حيفا» وانتهاء بفيلمه الأخير الذي حمل عنوان «مريم» حيث كانت التجربة مع الخطيب مهمة للغاية عندما عملت في مسلسل «هوى بحري» جنباً إلى جنب مع الفنان نعمان جود، محققةً نجاحاً إضافياً في صياغة أزياء مدينة متوسطية، متكئة على ألوان السماء والبحر والرمل، وعبر شاعرية خالصة نفذتها في ملابس وأزياء شخصيات هذا العمل معتمدةً على الأبيض والأزرق في تكوينات تصاميمها، متحاشيةً طغيان اللون على الكادر التلفزيوني الذي قدمه هنا المخرج الخطيب بشروط سينمائية بحت.
فولار نزار قباني
تجربة ستعيدها مرةً أخرى مع الخطيب في مسلسل «نزار قباني» العمل الذي راهنت فيه على نقل أزياء فترة الأربعينيات والخمسينيات في سورية وصولاً إلى بداية التسعينيات: «التحدي كان بالنسبة لي في مسلسل نزار قباني هو فكرتنا عن تلك المرحلة التي شاهدنا عنها أفلاماً بالأبيض والأسود، حيث لم أكن أطمح إلى تلوين الذاكرة الجماعية للمشاهدين، بل طمحت إلى الإبقاء على ثنائية الأبيض والأسود في الأزياء رغم تلوينهما، ما تطلب مني جهداً إضافياً للبحث في صور وأفلام السينما الخاصة بأربعينيات وخمسينيات دمشق، لكن ما أسرني هو حصولي على فولار للراحل نزار قباني من شقيقته السيدة الكريمة هيفا قباني، حيث قمتُ باستعماله وتعشيقه مع أزياء الشخصية التي قام بأدائها كل من الفنانين سلوم حداد وتيم حسن...كنتُ أحرص على ذلك الفولار وكأنه عصفور أو ملاك، فاقتنيت له صندوقاً خاصاً، حتى أنهينا تصوير المسلسل وقمت بإعادته لهيفا».
نالت هذه الفنانة الاستثنائية عدة جوائز عن تصاميمها، كان أبرزها جائزة أدونيا 2005 أفضل أزياء عن مسلسل «الظاهر بيبرس» والذي نجحت فيه على إعداد مئات الأزياء المملوكية التي اعتمدت فيها على تعشيق المخمل مع الجلد والمعدن، معولةً على غزارة النقوش في هذه التصاميم التي اعتمدت فيها على كتاب «تاريخ الأزياء المملوكية» وعلى بحثها الشخصي في مستودعات الألبسة التاريخية، منتجةً آلاف الأزياء لفرسان وجنود وخدم وملوك وسلاطين تلك الحقبة، مكرّسةً نمطاً جديداً من بناء الزي وحياكته استناداً إلى معارفها وقراءاتها الغزيرة، لتتحقق رائعةً أخرى من روائعها مع حاتم علي في مسلسل «الملك فاروق» عن نص الدكتورة لميس جابر، حيث أدهشت هذه الفنانة فناني مصر ونجومها بدقة تصاميمها وجماليتها الرائعة، مبرزةً أقمشة الساتان والمخمل بألوان عاجية فخمة عكست روح المحروسة في تلك الفترة.
أعمالاً كثيرة صممت لها مخلوف أزياء لا تنسى، لكنها تتوقف مجدداً عند عمل عزيز على قلبها: كانت مغامرة من نوع خاص في مسلسل (دليلة والزيبق) لمخرجه سمير حسين وكاتبه هوزان عكو، فهذا العمل تطلب أكثر مني تصميم قرابة أربعة آلاف زيّ على امتداد ستين حلقة، والسبب في ذلك هو أن حكاية المسلسل اعتمدت على مقالب الزيبق ودليلة ببعضهما، وما تتطلبه الحكايات هنا من أزياء تنكرية لكل من الشخصيتين، وهنا أعترف أن هذا العمل استنزفني كمصممة لا تريد أن تكرر نفسها، لكنه كان ممتعاً من حيث المساحة التي وفرها لي للعب على الزي، وتنفيذه عشرات المرات بعيداً عن التنميط والكليشهات التاريخية المزعومة، فأزياء (دليلة والزيبق) كانت هي ذاتها أزياء مدينة بغداد العصر العباسي، والذي أُطلق عليه عصر «الشُطار والعيارين».
تبتسم رجاء لما أنجزته من تصاميم وصلت قرابة العشرة آلاف زي، ثم تقول: «عندما أمشي في شوارع الشام أشعر أنني في مسلسل شخصياته هم المارة، وللحظة أريد أن أتدخل وأضبط ياقة هذا وأرفو شال تلك، لكني كل مرة أعود فيها إلى البيت أكون مسحورةً من هذا العالم».!