2013/05/29
أحمد علي هـــلال- البعث
إن مساءلة العناوين الدرامية التي قد تصبح مدخلاً ضرورياً لولوج ذلك العمل، أو غيره، لا تختزل فقط في إطار وظيفتها الإعلانية-الترويجّية، بل تذهب إلى ما تؤديه تلك الوظائف على المستوى الجمالي-الفكري، ومعها يصّح تساؤل إضافي: هل ما زالت العناوين دليلاً صحيحاً للأعمال الدرامية بالضرورة، لطالما دخلت في ما يمكن تسميته هنا في اقتصاد السوق الدرامية؟!.
> لا ريب أن العناوين، قد قطعت شوطاً كبيراً في مسيرتها لجذب المتلقي، أي من دراما الماضي الذي اتسّمت الكثير من عناوينه بالاتباعية والتقليدية، دون أن نبخسها حقها في مخاطبتها لوجدان المتلقي الجمعي، أي أنها لم تكن مركبة أو مشغولة على الأقل بهواجس حداثية، وبمعنى آخر.. كانت منسجمة مع لحظتها التاريخية، لتنفتح آنذاك على مجتمعها في شروطه الحياتية البسيطة، تقارب مشكلاته وتقترح الحلول لها ويمكن لنا أن نصفها بالمبسّطة والحميمية والمتوسّلة شغف متلقيها وإعجابه، والأدّل إمتاعه ومن العسير وصفها بالمجانية ربما في مواضع بعينها، لطالما قامت رؤية منتجيها على استبطان جمالية ما للأثر الدرامي، من شأنها أن تحدث تأثيراً محبّباً يمكن استعادته بمفاعيل نوستالجيا الحنين والزمن الجميل.
هكذا عرفت كلاسيكيات الأعمال الدرامية، عناوين أثيرة، سواء ما تعلق منها بالمكان أو الشخصية، أو الحالة وغير ذلك، وبالوسع استذكار عشرات العناوين التي رسمت ملامح مرحلة بعينها، أو مراحل تشر على مسيرة تلك الأعمال بمعنى صيرورتها الدرامية، من تلك "الحبكات" البسيطة المؤسسة لأفق انتظار المتلقي، وصولاً إلى انفتاح دلالتها على بنية العمل الدرامي كنسيج متكامل يرهص "بتداوله" مع المتلقي، ما يعني أن تلك العناوين-في تطورها-بحكم انتباه منتجي الدراما إلى غير وظيفة لها دخلت في هواجس حداثية، تطيّرت من أفعال المحاكاة-إن جاز التعبير، إلى أفعال إبداعية وضعتها في مفهوم أوسع، هو مفهوم الرسالة الدرامية، الذي يقوم على استنهاض الوعي بالفن وبحقيقته ودوره في تغيير منشود، لا سيما لجهة البنى المجتمعية ومنظوماتها القيمية، ولجهة طبيعة الرؤية الدرامية ومفرداتها ودخولها على إشكاليات معاصرة تطاول مناحي مختلفة، بل إن لحظات الانعطافات الحاسمة التي قرّبت تلك الشواغل الحداثية، لم تأت مصادفة، كان لها نصيب من تأسيسٍ واعٍ بثتّه العقود الماضية، لا سيما السبعينيات والثمانينيات والتسعينيات، فيما انتجته من أعمال لافتة في شرطها الفني-التاريخي من مثل "حارة القصر" و"حمّام القيشاني" وما تلاها من أعمال بطابع اجتماعي، بوليسي، تاريخي.. وهذا لا يعني بطبيعة الحال استثناء أعمال أخرى، سابقة شكلّت ذاكرة خصبة للمتلقي، وبمجرد استذكارها تستعاد ثيمات تلك الأعمال ومقولاتها، ولا يخلو استذكارها في الأعم الأغلب من طبيعة عاطفية، ما زالت تحاكي وجدان المتلقي الفردي والجمعي في آن معاً.
فضلاً عن أن العناوين التي اتكأت على أعمال أدبية معروفة لكتابنا الكبار، سواء كانت تناصاً أو اقتباساً، أو اعتماداً على مدوناتها، أضافت في المجال البصري قيماً مضافة، ربما نستذكر هنا رائعة الراحل صدقي إسماعيل "الله والفقر" وتمظهرها في عملين دراميين، ومدى إسهام كلا النجمين هاني الروماني، وتيم حسن في إضافة أبعاد للشخصية الرئيسية، على الرغم من حركتي الانفصال والاتصال بالمعنى الزمني-والتقني، وهذا السياق بالتأكيد سيستدعي عنواناً آخر هو "نهاية رجل شجاع" عن رواية المبدع الكبير حنا مينة، وسيناريو الأديب المبدع حسن م يوسف، بانتقال العنوان من الرواية "المرجع" إلى فضاء الصورة واستحقاقات حداثتها، فيما استدخلته وبمهارة لافتة رؤية نجدت أنزور على المستوى الإخراجي، فالمسألة ليست محض "ترجمة" للعنوان، بقدر ما هي تشييد يخص عمارة العمل وإثراء محفزاته، نقلة تقارب "كيميائية" بمعادلات بصرية-رؤيوية جمالية، وهنا بالضبط يذهب سؤال العنوان في الدراما في ماهيته الحداثية، التي أصبحت في حاضرنا الدرامي المعاصر أكثر استجابة لمتطلبات التلقي وجمالياته أيضاً، بما يشيعه من حالة شاعرية، لكنها تخلق حوافزها العاطفية والفكرية والقيمية، أي أنها لم تعد تكتفي باستجابة عاطفية ضيقة، بل خلقت لها متسّعاً من الدلالات لتنتج تأويلها المفتوح، ما يعني هنا تخصيباً ناجزاً لعناوين أصبحت إبداعية، بفعل ثقافة الدراما التي تراكمت، لتفارق المنجز فيها-السهل لا الممتنع- ولتكون العناوين، عتبات دالة لنسيج الأعمال الدرامية، صحيح أن في عناوين ما اصطلح عليه بدراما البيئة وتنوعها، ثمة ما هو مستقر ولا يذهب بمتلقيه بعيداً، نأياً عن سجال وجدل محتملين، لكن الأصّح أن التغييرات التي طاولت بنية الأعمال الدرامية جعلت من أفق التوقع حافزاً لتفعيل العنوان، في فضاءات تلقٍ منتج، وبفعل وعي كتابنا الدراميين لشرط المعاصرة وإنتاج القيمة والارتقاء بالمتعة الفنية، أصبح العنوان كثافة العمل الدرامي على المستوى الإبداعي في المقام الأول، فمن شعرية العنوان إلى قيمه الفكرية والثقافية، بعيداً عن الاستهلاك والتنميط والنمذجة والنقل، أصبح العمل الدرامي أكثر تطلّباً للذائقة الجمعية ولحاجات الفن، التي اقتضت تشكيله وصوغه وتحديثه، ولا يمكن تجزئة مطلق عمل درامي لطالما يقارب بكليته، التي تنتج قولاً درامياً متماسكاً، والحال أن راهنية العنوان الدرامي من شأنها أن تكثفّ أسئلتنا الجمالية التي تتغذّى من حقول الإبداع، وتنجز خصوصيتها، وذلك ما يبرّز انتظارنا لعناوين وأعمال قادمة ومنها على الأقل "زمن البرغوث" في نسخته الثانية للسيناريست المبدع محمد الزيد، وأخرى تستحق انتظارنا لدلالات منتظرة ما زال يفتتحها العنوان بسلطته الأثيرة..