الياسمين السوري, لا يموت إلا واقفاً ياســين بقــوش.. وداعــاً

تمام علي بركات – تشرين

كقمر منطفئ طافٍ في حزنه, كحياة لوحت بيد من تعب, لحياة تغيرت ملامحها التي يحبها, ويحفظ إيقاعها الهادئ عن ظهر قلب, كحلم يحلم بحلم لا ينتهي إلا سعيداً, كسفر ومسافات وأدعية,

ارتقى «ياسينو» معارج الضوء بخفة روحه, وطيب معدنه, صعد خشبة مسرح الحياة للمرة الأخيرة, قبل أن تسدل الستارة المخملية, لتنهي الفصل الأخير من فصول حياته, لكن تغيراً طفيفاً سيطرأ على هذه المسرحية يا «ياسينو», فالستارة التي حفظت أنفاسك ورائحة فرحك, الستارة التي ألفتها وألفتك, لن ترفع مرة أخرى لتظهر من فرجتها وأنت تمسح عرق جبينك بمنديلك الشهير, لتحيي جمهورك بانحناءة المودة والحب, لن تطل علينا مرة أخرى بشروالك الرمادي وطاقيتك  الصوف المشغولة باليد, بصوتك العميق وسذاجتك المحببة, كاركترك الفارق في الدراما السورية, لن نرى بعد اليوم غضبك اللحظي الذي سيختفي بثوانٍ معدودة, بعد ابتسامة خفيفة من مغضبك, لتعود الضحكة إلى  وجهك الذي يعكس روحك ممثلاً وإنساناً عادياً, باعتبارهما كلاً واحداً, في الحياة وفي العمل, لن يتسنى لنا أن نراك مرة أخرى في شوارع الشام, تبادلنا السلام والمودة وعزيمة الشاي في مقهى الحجاز, ليس لأن«غوار الطوشة», دبر لك مقلباً من مقالبه المعتادة لينفرد «بفطوم» ولا لأن أوتيل صح النوم أغلق أبوابه بوجه زبائن, لم تعد سورية مكانهم المفضل للسياحة, بعد أن غرقت حارة «كل مين ايدو إلو» بالظلمة ورائحة الدم السوري القرمزي, بل لأن يداً جاهلة وحقودة, صوبت وأطلقت أفاعي الموت لتجوس هذه المرة, أنفاسك, بعد أن خطفت الحياة من أرواح آلاف  السوريين, من علماء ومثقفين, ورجال دين, معلنة بكامل غدرها وحقدها, نهاية حياة أحد ألمع نجوم الفن في سورية وأهمهم, «ياسين بقوش» أو «ياسينو», كما عرفه وأحبه الجمهور السوري والعربي من المحيط إلى  الخليج, لروحه النقية, أمام الكاميرا وخلفها.

قبل أيام قلائل, أطل فقيد المسرح والدراما السورية, فقيد كل من أحبه وعرف قيمته الفنية والإنسانية, على شاشة التلفزيون العربي السوري, والحزن يلتهم ضحكته الطيبة حد البراءة, على ما يحدث في وطنه, من خراب ودمار وقتل باسم الحرية, «بقوش» الليبي الأصل, السوري الحياة, قال كلمته لأعداء الحياة,: «لم أشعر يوماً أني من ليبيا, هذا البلد الأمين, لم يعلمني سوى الخير والمحبة, هذا البلد عشت فيه كل حياتي, تربيت وكبرت وعملت وتزوجت وأنجبت في كنفه, لن أغادره إلا إلى  الموت, ولن  أغدره ولو مت أنا وأطفالي من الجوع», ثم  بكت عيناه الدمار والخراب, و تمنى على أولئك الشياطين أن يستفيقوا من ظلمة جهلهم, ليعودوا إلى  الحياة التي ساهم والكثير من رفاقه الراحلين منهم والباقين, في غرس بذور الألفة والمحبة في حواكيرها وتلالها الوعرة, (حسني البورظان, غوار الطوشة, بدري أبو كلبشة, أبو عنتر, فطوم حيص بيص) وغيرهم من الفنانين الذين عبدوا وعورة طريق الفن في سورية, عبدوها بالعرق والجهد والتعب, بلا كلل ولا تذمر من انخفاض الأجور, والتصوير المباشر على الهواء مباشرة, والظروف الصعبة التي رافقت بداية إطلاق البث التلفزيوني في سورية عام 1960, وقبله أثناء وجدوهم على خشبة المسرح السوري, بموهبتهم وموهبتهم فقط, من دون أدنى دراية بدراسة فن التمثيل, وإشغال الممثل, لأنهم ببساطة ورغم إدراكهم لحقيقة ما يقومون به من كونه تمثيلاً, إلا أنهم  تعاملوا معه بمنطق حياتي بحت «أعطيك من روحي لتنهض وتعطيني كفاف يومي», والشاهد على تلك القناعة, ضمير لا يهدأ ولا يطمئن حتى يبذل كل ما بروحه  في عمله. أناس أطعموا فنهم  من روحهم وحياتهم, و تعاملوا معه بمصداقية وشرف, لينقلوا الحياة بكل معانيها واختلاف أمزجتها, للخشبة ومن أمام الكاميرا إلى  المتفرج المنتظر إطلالتهم بفارغ الصبر, لكونه عدا المتعة التي تتسرب إلى  روحه بمشاهدة أعمالهم, يشعر كذلك بشكل ما أنه منهم, فما قدموه كان من الحياة, من تفاصيلها وتباينها, من احتكاكهم الدائم بالناس, و انتقاء مفردات شخصياتهم بأدق تفاصيلها من الناس العاديين, البسطاء, الناس اليوميين بحقيقتهم المجردة, ونقلها بطبيعتها الشكلية والضمنية  بأسلوب يظهر منه الجانب التمثيلي بوضوح, وتظهر منه الجوانب الواقعية بأنفاسها الحارة, وحركة حياتها المتبدلة, لذلك وصل إلينا إحساسهم مباشرة من دون وسيط, لامستنا حكاياهم وعبرهم, مست شغاف قلوبنا, حقيقتهم وطبيعتهم, عشنا معهم وعاشوا معنا, لم يستخفوا بنا ولم يستخفوا بما يفعلون, ليجيء فنهم من الحياة وإلى  الحياة.

لم يكن بطل مسلسل «حمام الهنا» من اللاهثين خلف أعمال لا تحقق تطلعه ونظرته إلى الفن, فالتمثيل بالنسبة إليه وقبل أي اعتبار آخر,حياة موازية للحياة نفسها, حتى إن اسمه الحقيقي, هو الاسم الذي بقي يحمله في أي عمل اشترك به  خلال مسيرته الفنية التي امتدت زهاء «50» عاماً, وكان قد رفض العديد من الأدوار ذات المردود المادي الجيد, لكنه رفضها رغم الضائقة المالية التي مر بها, ومنها مسلسل «عودة غوار», مبيناً سبب اعتذاره بقوله: «عرض علي مسلسل عودة غوار ورفضت لعب شخصية ياسينو القديمة التي عرفها الجمهور العربي وأحبها في المسلسل الشهير (صح النوم) عام 1972 لأنها ببساطة  كانت تمثل طيبة الإنسان العربي ونقاءه لكن شخصية ياسينو في مسلسل عودة غوار تظهر متآمرة على غوار وتدخله السجن ظلماً لذلك رفضت تجسيدها لأنه جرى تشويه هذه الشخصية من قبل الكاتب ولو جرى حينها تغيير الأسماء ربما كنت سأوافق لأن شخصية ياسينو كما قلت كانت تمثل البعد الإنساني الطيب للإنسان العربي فلماذ نشوه هذه الطيبة؟ الجمهور لايقبل دريد لحام بغير شخصية غوار الطوشة!», كما أنه رأى أن فن التمثيل تدهور بعد أن تحول إلى  تجارة بحت, لم يعد يحمل في مضمونه أي رسالة يمكن توجيهها للجمهور, منذ فرط حب السبحة التي كانت تجمع بين نجوم الستينيات والسبعينيات, وغياب روح المحبة والألفة عن أغلب الأعمال الدرامية, لم تكن شخصية «ياسين» من الشخصيات البسيطة التي مرت في تاريخ الدراما السورية كما يعتقد الكثيرون, فقد استطاع بطل مسرحية «السقوط», أن يعطي لشخصيته  كاريزما خاصة وحساسة جداً, كونت مفرداتها الانفعالات الهادئة التي  قدمها وهي تنم عن سذاجة وبساطة  مفرطة في الحياة العملية, لكن أسلوبه البسيط والمعقد فنياً في آن واحد في تقديمها يحيلنا إلى أداء فني خاص لتلك الشخصية بسمات مميزة من لحم ودم فصلت خصيصاً لكيان «ياسين بقوش», كما كان لملامحه بتلك العينين الحزينتين والابتسامة الرقيقة, علاقة مهمة بسيناريو أفعال شخصية «ياسين» الخاصة والخاصة جداً به لدرجة أنها لا تناسب غيره من الممثلين، معتمداً تكنيكاً ماهراً في دمج المراد المخفي من النص مع الطابع العام لحال المشهد، بطريقة  ذكية  تجعل من المتلقي يستقبل تلك الشخصية بالكثير من الانتباه, إذ إنها غالباً ما تكون الحلقة المكملة, لأفعال شركائه الدرامية, ولاسيما مع كل من «دريد لحام, نهاد قلعي, ناجي جبر, رفيق سبيعي», معطياً تلك الشخصية البسيطة دوراً مهماً لا يقل عن دور بقية نجوم العمل.

بقي اسم «ياسين بقوش» بشخصيته المشهورة «ياسينو» طوال مسيرة إبداعه الكوميدي, نظيفاً من الأفعال الدرامية المعقدة, بابتعاده عن كل دور لا يتلاءم و الشخصية التي أحبه المتفرج بها, حيث ظل حضوره على الشاشة أو المسرح, مرتبطاً بالفرح المصنوع من موهبته الطازجة والمتجددة في كل إطلالة له, من دون أن يصاب المشاهد بالملل من الشخصية الواحدة والمتكررة, لأنه استطاع أن يحول تلك الشخصية إلى  ما يشبه الرمز أو اللوغو للفرجة التي يقدمها, كما أنه يمتلك عمقا وذكاء ينم عن ثقافة ثرية في الفن والأدب والتاريخ والسياسة

ولد الفنان «ياسين بقوش» في دمشق, بدأت حياته الفنية سنة 1956, مع المرحوم عبد اللطيف فتحي في فرقة المسرح الحر وحتى عام 1960 حيث انتسب لفرقة مسرح العرائس في وزارة الثقافة السورية وتدرب فترة طويلة في مجال إخراج الدراما وتحليل الشخصيات على يد خبراء أوروبيين, وقدم بعدها مع الفنان عمر حجو بعض التمثيليات والاسكتشات في برامج الأطفال وبرامج التلفزيون الأسبوعية, في عام 1969 ترك الوظيفة وأسس مسرح الشوك مع عبد اللطيف فتحي وقدما أول عرض مسرحي في المركز الثقافي السوفييتي في «أبو رمانة». وقدما بعدها عروضاً ناجحة لمسرح الشوك ولكنه توقف سنة 1974 ثم أسس ويوسف حرب فرقة أطلقوا عليها التجمع النقابي الفرقة الدرامية وقدموا عروضاً مسرحية كثيرة ، وفي مجال التلفزيون قدم أعمالاً كثيرة مع الفنان دريد لحام منها (صح النوم.. وين الغلط وادي المسك) وغيرها. كما قدم أعمالاً تلفزيونية عديدة مع شركة الشام وقناة الـ ART المشفرة ومنها: (ياسين فيديو كليب) و(حدث في المطبخ) و(ياسين تورز). في آخر حوار أجري معه قال الراحل الكبير: «أنظر إلى  مسيرتي الفنية وأنا أعتز بها لأني استفدت منها كثيراً ثقافياً وأدبياً واجتماعياً وربيت أولادي على هذا النهج فكلما نظرت إلى أولادي وهم يحملون ثقافة عالية أحس نفسي أني ملك هذا العصر على بيتي وأهلي وأصدقائي.

مات «ياسين بقوش», اغتاله الحقد والكره الأعمى للحياة, بعد وصول نسائم الموت إلى حارة «كل مين إيدو إلو» أغلق فندق «صح النوم» أبوابه لأن سورية لم تعد المكان الأفضل للسياحة في حين أحرق الإرهابيون دكانة «أبو رياح» لأنه رفض إغلاق دكانه.. «أبو عنتر» انضم للجان الشعبية في حين أسس «حسني البورظان» صفحة على الفيسبوك تحمل اسم «إذا أردت أن تعلم ماذا في سورية يجب عليك أن تعلم ماذا تُخطط إسرائيل».. «فطوم حيص بيص» نزحت من الحارة بعد أن كثرت عمليات الخطف والاغتصاب لتستقر في إحدى المدارس.. «بدري أبو كلبشة» رفض الانشقاق فقطعوا رأسه وعلقوه على باب المخفر.. «أبو قاسم» بائع الخيار ما عاد ينادي «أصابيع البوبو الخيار» لأن الغناء أصبح محرماً في الحارة! «غوار الطوشة» رأى كل أشكال الشيشان والأفغان والليبيين وهم يقتحمون فندق «صح النوم»، يرفعون عليه علم جبهة النصرة ويحولونه إلى غرفة عمليات و قد أخبرني أن أمير «طوالستان» سيأتي إلى سورية عن جد هالمرة وليس مقلباً وذلك للمشاركة في العمليات الإرهابية... شيعت الحارة «ياسينو» الذي استشهد بعد استهدافه من قبل أتباع آل صهيون لأن الابتسامة عندهم حرام والضحك عندهم حرام وطيبة القلب عندهم حرام و ذاكرة الوطن الجميلة حرام.