2013/05/29
صهيب عنجريني – السفير
لا تبدو الضجة التي أثارتها مغادرة المتحدث السابق باسم وزارة الخارجية والمغتربين السورية جهاد مقدسي منصبه، مرتبطةً بحساسية ذلك المنصب، بقدر ما يمكن ربطها بالحضور الإعلامي القوي للرجل، خلال توليه مهامه في الوزارة المذكورة التي لم تفرز وجوهاً شابّة كثيرة، إذ تعاقب عليها منذ عام 1970 حتى اليوم ثلاثة وزراء فقط.
يحمل مقدسي إجازة في اللغة الفرنسية، أتبعها بدراسات عليا في العلاقات الدولية والإدارة، وحصل على دبلوم الترجمة الفورية من جامعة ليون الفرنسيّة، وماجستير في الدبلوماسية من جامعة وستمنستر البريطانية، تَوَّجها أخيراً بالحصول على شهادة الدكتوراه في الدراسات الإعلامية من الجامعة الأميركية في لندن عن أطروحة بعنوان: «الإرهاب ودور الإعلام الغربي في تشكيل الرأي العام».
بدأ مقدسي طريقه السياسي في وزارة الخارجية السورية في العام 1998، وتنقل بين سفارات بلاده في عواصم عدة، منها واشنطن، كاراكاس، ولندن. واستند في تقدّمه المهني على مؤهلاته الأكاديميّة، وعلى كاريزما لافتة، جعلته نجماً على مواقع التواصل الاجتماعي. وقد أسهم في نجوميّته تلك، حرصه على الظهور عبر حساب شخصي على الفايسبوك، وآخر على تويتر، بطريقة غير مألوفة بالنسبة للدبلوماسيين السوريين. وأنشأ المعجبون به من الموالين للسلطات السورية عشرات الصفحات على فايسبوك، وتداولوا تصريحاته محتفين بها وضموه إلى ما يسمى «قوائم الفخر السورية» مع الحرص على ذكر اسمه مسبوقاً بلقب «الدكتور» الذي يعشقه الموالون. وهذا الأمر تزامن، بطبيعة الحال، مع شن المعارضين هجمات ضده إثر كل تصريح يدلي به، أو مؤتمر صحافي يعقده، ووضعه على ما يسمى «قوائم العار». في حين اعتبره الكثيرون «الوجه الدبلوماسي الأبرز» للحكومة السورية خلال العام 2012، وأطلقت عليه ألقابٌ عدة، منها «فتى النظام الجديد» و«صحَّاف سوريا الأنيق».
تبدو النجومية التي حققها مقدسي وثيقة الصلة بسده فراغاً وسم الأداء الإعلامي للحكومات السورية المتعاقبة، لا خلال الأزمة فحسب، بل قبلها بكثير. أداء تبدو البيانات الفضفاضة أبرز ملامحه. ولا يتذكر السوريون اسماً سبق مقدسي في شغل منصب المتحدث الإعلامي باسم وزارة الخارجيّة السوريّة.
وقد اشتغل الرجل بذكاء على الخروج بالصورة العصرية لناطق إعلامي. فبدا في جميع إطلالاته أنيقاً، واثقاً، جريئاً، سريع البديهة حاضر النكتة ولاذع السخرية عند اللزوم، علاوةً على تحدثه الفرنسيَّة والإنكليزية بطلاقة. واتسمت تصريحاته بالقوة، وكان من أبرزها كلامه الذي خاطب به المتحدث باسم الخارجية الأميركية مارك تونر قائلاً: «أرجو من الناطق الرسمي الأميركي توخي الدقة، وأن يبقى مهنياً في تعاطيه، وألا يلجأ إلى تسجيل نقاط في أهداف فارغة. نحن لدينا معهد ديبلوماسي ومستعدون لأن نرسل للناطق كُتيِّبات لها علاقة بالمهنية، ويمكن أن نرسلها له بالبريد الديبلوماسي».
وخلال مسيرته التي انتهت أخيراً باعتكافه أو انشقاقه، تبعاً للتصريحات الإعلاميّة المتضاربة، أثارت تصريحات مقدسي جدلاً واسعاً. ومنها ذلك التصريح الذي اعتبره البعض إقراراً بامتلاك السلطات السورية أسلحةً كيميائية حين أكد في تموز الماضي أنه «لن يتم استخدام أي سلاح كيميائي أو جرثومي أبداً خلال الأزمة في سوريا مهما كانت التطورات الداخلية» وأن «هذه الأسلحة لن تستخدم إلا في حال تعرضت سوريا لعدوان خارجي». وكانت آخر التصريحات التي نُقلت عنه متعلقةً بالأسلحة الكيميائية أيضاً، حين قال إن «سوريا أكدت مراراً وتكراراً بأنّها لن تستخدم مثل هذه الأسلحة إن وجدت ضد شعبها تحت أي ظرف كان». كلامٌ أعيدَ نشرُه بعد تضارب الأنباء بين إقالة واستقالة الناطق منسوباً هذه المرة إلى «مصدر مسؤول» وهي الصيغة التي اعتاد السوريون تلقي بيانات خارجيتهم عبرها قبل تعيين مقدسي ناطقاً رسمياً.
وسط الزوابع السياسيّة الدائرة حول حقيقة خروج مقدسي من منصبه، ثمة أمر ثابت، انّ المتحدث الرسمي السابق باسم وزارة الخارجيّة السوريّة، شكّل ظاهرة إعلاميّة، وقدّم تجربة فريدة حتى تاريخه، في مجال مخاطبة الجهات الرسميّة للإعلام، في وقت كان الإعلام الرسمي السوري يتخبّط بأخطائه الكثيرة. الأكيد انّ الرجل كان واحداً من أبرز الوجوه الإعلاميّة التي أفرزتها الأزمة السورية، وانَّ سد الفراغ الذي سيخلفه لن يكون سهلاً سواء تم تعيين خلفٍ له، أم عادت صيغة «مصدر مسؤول» إلى تصدر بيانات الخارجية السورية.