2013/05/29
سامر محمد اسماعيل – تشرين
يرتكز مشروع المؤلف الموسيقي طاهر مامللي على فهم مختلف لمعنى الكتابة الموسيقية للصورة فمنذ أن شرع هذا الفنان في وضع نوتاته الأولى للدراما السورية اختلفت الصورة وانشقت عن عناصرها التزيينية، فقد اختفت تلك السمة الفلكلورية التقليدية التي لازمت إنجاز الأعمال الدرامية التي قدمها التلفزيون منذ تأسيسه عام 1960، فلقد كان واضحاً أن من وضع العديد من تلك النسخ التصويرية للمسلسل السوري كانت له هواجس أخرى غير الكتابة، فلقد كان الفهم السائد للمعنى التصويري هو اللحني الطربي الذي يعتمد على حبكات اللازمة الغنائية، المذاهب زائد الكوبليه، والشجن السطحي المبالغ به لتركيبه عبر مكساج قهري على الصورة الدرامية.
طبعاً كان ذلك بالتوازي مع فقر النصوص المكتوبة وحاجتها إلى بؤرية الحبكة المشغولة ومدى عمق الشخصيات، ومدى اشتغال المخرج على فضاءاته اللونية والبصرية، كل ذلك كانت له موسيقا تشبهه، كل ذلك كان نتاجاً متجانساً لحكاية لم تبتعد عن مزاج التخت الشرقي الملازم لمساخر كراكوز وعيواظ، تلك المساخر الشعبية الغنية في أيقونتها وحالتها الثقافية كأصل للشاشة العربية التليدة، لكنها ظلت ضمن صياغاتها القديمة فقيرة وناتئة السطوح.
زمن كان لا بد منه للتفكير في الحالة التي عكستها الموسيقا الجديدة، والتي تعي تمام الوعي أن الكتابة للبصري مرهونة بقيمتها الفنية والثقافية ومدى عمقها وتعمقها في بنية المجتمعات الجديدة، لهذا كله كان لا بد لمامللي من تفادي التزيين كما أسلفت، والخروج من الكليشيه اللحني السوري المتأرجح بين مدرسة مصرية شديدة المالنخولية-السوداوية، وبين نزعة شعبية هرمت في قناني عطرها المستهلك.
بمعنى آخر استطاع المقترح الموسيقي الجديد أن يكون يداً بيد مع كسر الشاشة القديمة، والخروج كل الخروج على أنماط التلحين للمسلسل، التمرد بشكل نهائي على الكتابة التجييشية، الموسيقا المنتزعة من وظائفها التحريضية، من نطاقها الفكري المغلق، من هنا كان مشروع طاهر مامللي عابقاً بالمفاجأة والدهشة اللونية، إنه مشروع لم يتنكر للشعبي ولم يحتقره، بل استطاع رؤيته ضمن موهبة عالية على قراءة التراثي والحميمي والنفعي، فموسيقا هذا الفنان السوري تنبت من المعنى الواقعي لكلمة دراما، دراما الفعل، دراما المجابهة والصراع، دراما فيزيائية قادرة على كشف المستور وإماطة اللثام عما يكتنف المجتمعات الجديدة.
لا أبالغ بالقول إن موسيقا مامللي حققت كتابة موازية للنص المكتوب والمصور في آن معاً، ولكن وبما إننا هنا بصدد التعرض للبصري علينا الاكتفاء بالصورة التي تولدت عن زواجها بالموسيقا، لا ريب أنها صورة ثانية، صورة تتدفق بشعريتها، بسطوحها المتباينة، بغناها الفريد في التقاط الحبكة الجوهرية للعمل الدرامي، ولذلك كانت على سبيل المثال كتابة مامللي لموسيقا «الزير سالم» و«التغريبة الفلسطينية» و«الفصول الأربعة» و«بقعة ضوء» مروراً بـ«عصي الدمع» وصولاً إلى «سحابة صيف» كانت هذه الكتابة تولف بين مفردات موسيقية ضمن حداثة التوزيع الأنيق، متجاهلةً الأثر الماضوي للجملة المشغول عليها، ففي «الزير سالم» و«التغريبة» نستمع إلى تصويرية من نوع مختلف، بساطة ممزوجة بالكلمة، بالآلة البدائية بالسحجة الطقسية، بالصراخ بالقصيدة، بالموال الشروقي، هاهنا موسيقا لا تعلن قطيعتها، بل على العكس تنهل أيما نهل من معين القبلي والتأجيجي، لكنها في الوقت ذاته تعكس معاصرة لا ترد، معاصرة لا تلفق التصويرية، بل تقرؤها مشهداً مشهداً.
في «ضيعة ضايعة» مثلاً لا يستغني المامللي عن وصفته في الاتكاء على التراث، لكنه يقدم حوادث موسيقية صغيرة، يقدم فواصل ذات حبكات، يقدم منجزاً صوتياً ذا دلالة، إنه يمرئي الصوت، يستفزه، يضيف نكهة الكوميديا ذات المغزى المأساوي، يضيف اللعب أيضاً، تماماً كما فعل مع بقعة ضوء؛ حيث ناغم بين أسلوب ديمة أورشو المأخوذ من مغنية الجاز الأذربيجانية عزيزة مصطفى زادة وبين عود يتدفق بسلاسة بين عبثية المؤلف الذي يعكس قيم المدينة وعواطف المواطن المسحوق بمساحيق التنظيف وبيانات العسف الاجتماعي، «يا ناس خلوني بحالي» جعلت وحدةً درامية لا تنفصم عراها، حتى إنني أكاد أقول إنها دارت على ضعف بعض النصوص والمخرجين الذين تصدوا لإنجاز لوحات هذا المسلسل.
في المقابل يمكننا تلمس الصوفية العالية التي عكستها أغنية الشارة في «الزير سالم» البرية والحوشية العجيبة، القبيلة في الموسيقا هنا تكاد تصرخ، تكاد تتجسد حروب بكر وتغلب في صوت القصائد المشغولة بلهجة السيرة الشعبية، يكاد المناخ الموسيقي المشغول أن ينطق التراجيديا العربية المتجسدة في مأساة مقتل كليب وحزن أخيه الزير عليه، نكاد نرى من سحبة الرباب قافلة رثاء لا تنتهي.
إلى هذا يمكن أن نلاحظ هذه الروح العالية لدى هذا المؤلف في نشيد «التغريبة» هذه الموهبة الماكرة في ضرب الأمثلة التصويرية، فقصيدة إبراهيم طوقان في شارة البداية «صامت لو تكلما لفظ النار والدم، قل لمن عاف صمته خلق الحزم أبكما».
هذه القصيدة الجميلة عن الرفض الفلسطيني والإصرار على حق العودة وضياع برتقال البلاد هي الضالة التي يبحث عنها مامللي، فهو يعرف ويتابع ويقرأ كل المعطيات عبر فهم ذكي للروائية التلفزيونية، كمنجاته وبزقه وعوده وطبوله ليست فائضة عن الحاجة، إنها في مكانها المناسب دائماً، ففي سحابة صيف مثلاً سنرى كيف يعود المامللي إلى الترنيمة الاحتفاءية، إلى تلويحة الأكف عبر صوت «حمام خيري»» ليدس لنا كمية هائلة من حمولة ثقافية للموسيقا.
هذا الارتكاب المنمق المصنوع يمر في مراحل متتالية من إشراق متصاعد، إشراق له معنى، أجل إنها موسيقا لها معنى، بل أستطيع القول إنه يضفي المعنى أحياناً على مشاهد ضعيفة من العمل التلفزيوني، في «أهل الغرام» مثلاً سنلاحظ هذا التيار المتواتر لموسيقا تقص علينا وتسرد لنا، في «عصي الدمع» و«أحلام كبيرة» سندهش أمام الفهم الخاص الذي يقدمه مامللي لنص الشاعر نزيه أبو عفش، النص الذي يتحول إلى رثائية معاصرة بنكهة ألم وحنين مختلفتين، ثم إنه هناك دائماً خيارات مفتوحة لدى هذا المؤلف تجعله دائماً جديداً ومعافى من التكرار، إنه خلاق في بث الترنيمة، في صياغة المادة التي تغطي عراء الأفعال والمشاهد المصورة على عجل تحت ضغط عجل الإنتاج، إن موسيقا هذا الرجل حل من الحلول الإخراجية لتغطية ضعف الكثيرات والكثيرين من ممثلي الدراما السورية، موسيقا فاعلة وليست منفعلة، موسيقا تؤلف لنفسها قبل أن تصور لنا فداحة المشهد وطرافته الدرامية.