2013/05/29
محمد بنعزيز – السفير
في دراسة حديثة حول قياس نسبة المشاهدة، تبيّن أنّ ثلثي المغاربة يتابعون قنوات أجنبية. خسر الإعلام المغربي معركة المنافسة على أرضه، لمصلحة قنوات تبث من الخليج. والجديد في الأمر أن متابعي الدراما على قناة «أم بي سي 4» صاروا أكثر من متابعي أخبار «الجزيرة». وذلك، تحوّل لافت في أوج ريح الثورات التي تهبّ على المنطقة.
منذ بداية العام 2011، والقنوات الإخبارية تتربّع على عرش نسب المشاهدة. كانت عيون زبائن المقاهي المغربية ملتصقة بالشاشات. ولم يكن بإمكان المشاهدين تفويت فرصة مشاهدة حكام أبديين يسقطون. كانت تلك واحدة من اللحظات النادرة التي استرجعت فيها الشعوب العربية البطولة في الميدان. صارت لازمة «الشعب يريد» مقدسة. وقد تكفلت القنوات الإخبارية بتوثيق هذا المشهد التاريخي العظيم.
أمّا الآن، فيطلب زبائن المقاهي قنوات الرياضة، وحتى سيرة الحيوانات على شاشة قناة «ناشونال جيوغرافيك». كأنّ مشاهدة الحيوانات صارت أمتع من مشاهدة البشر. فما الذي جعل المشهد يتغيّر، لتفقد الأخبار السياسية متابعيها لمصلحة الدراما؟ تقتضي الإجابة إجراء مقارنة تشمل المحتوى، والوجوه التي تمرّ يومياً على الشاشة العربيّة عموماً، والتي تدخل بيت المتلقّي العربي من المغرب إلى المشرق.
في مسلسل «فاطمة» مثلاً، تعرضت البطلة الجميلة لاغتصاب جماعي، وبما أن كريم والعدالة والإعلام في صفها فهي ستنتصر على مغتصبها. سيكون حظها أفضل مما يجري في الواقع. في مسلسل «على مر الزمن»، نرى القبطان يترك زوجته ابنة البلد جميلة، ليتزوج بكارولين الأجنبيّة. ثمّ يحنّ للأولى بعدما حطمته الثانية، لكن من حسن الحظ أنّ الرجال لا يتعلمون، يعشقون الصبايا ويكون الثمن غالياً. رغم حداثة الألبسة والفضاءات، إلا أنّ تلك المسلسلات تعيد إنتاج قيم تقليدية. في مسلسل «حكاية سمر»، قُدمت الشابة سمر كديّة من طرف عائلتها لتعويض القتيل لتجنب الثأر... وهكذا تدفع النساء ثمن أخطاء الرجال.
من فرط قوة تأثير تلك المسلسلات، لا تقع متابعتها بالمصادفة، بل يُبرمج المتفرجون مواعيدهم للتواجد في البيت أمام الشاشة لمشاهدة ممثلات حسناوات.
تتميز المسلسلات التركيّة بتصوير حرفي سينمائي، تلتقط الكاميرا المحمولة الحوارات لتخفيف الرتابة، كما يتمّ تجنّب التصوير الداخلي للتركيز على التصوير الخارجي رغم كلفته العالية. ورغم تواليها بكثافة، تحرص الأعمال الدراميّة التركيّة، بجهد كبير، على تمايز الشخصيات لكي لا تتداخل القصص في ذهن المتفرج. آخر دليل التحاق الممثل كيفانتش تاتليتوغ المعروف باسم مهند، بمسلسل «إيزيل» وقد صار ملتحياً شريراً فصدم المعجبات به. لكن ّمهند لم يفقد قدرته على الغواية، وهو يركب سيارته الرياضية الفاخرة وتصوره الكاميرا بحبّ من كل الزوايا. بخلاف هذا التنوّع، تقدّم القنوات الإخبارية وجوه محللين هرمين، يجلبون الملل ويمكن للمتفرج توقع ما سيقولونه فور فتحهم أفواههم.
على صعيد المحتوى صار تقديم الأخبار الجديدة صعباً، فالمشهد يكاد يبدو مكروراً: كان الشعب يريد إسقاط النظام، سقط الرأس انتشرت الفوضى واكتشف «الإخوان المسلمون» أنهم ليسوا شعبيين تماماً.. ومع ضبابية المشهد السياسي فقد أثر تراجع الفعل الجماهيري على ذوق الجمهور. ولخلق الجديد تمنح الكلمة لمن لا ينتج خطاباً، لمن لا يتقن الخطابة فيتلعثم، وقد صار من الصعب على فيصل القاسم استضافة مُجادلين مهرة. كما يتم اصطياد السبق الصحافي. لكن وبسبب البحث عن السبق تتكرّر الأخطاء، يختلط الخبر والشائعة، تُـــنشر أخبار عاجلة يصعب التثبت منها، من دون نـــسيان وجود قنـــوات بلا محتوى على صعيد الخط التحـــريري؛ أو لديــها محتوى واحد هو الدفاع عن مموّليها.
الديماغوجية مدمّرة للمصداقية.
هكذا خيّبت القنوات السياسية أمل الجمهور، وهي قنوات تزعم تحليل عمق الخبر لتكتمل الصورة. غير أنّ التحليل صعب، تفرض متابعته معرفة المفاهيم وتتبع الاستدلال عبر الاستقراء والاستنباط.
وهذا مضجر بخلاف الحكي المشوّق، لأنه يقوم على الوقائع لا الأفكار، ونادراً ما يخيب أمل المتفرج. ثم إنّ الكلام، سابق على التحليل، منذ نشأة الحضارة البشرية. لهذا تجاوزت قنوات الدراما القنوات الإخبارية فانتقلت البطولة على الشاشات من الشعب إلى «فاطمة» و«إيزيل»، من التحليل إلى الحكي.
محمد بنعزيز
(كاتب وسينمائي من المغرب)