2013/05/29
سامي رستم – السفير
تبلغ فيروز غداً في 20 تشرين الثاني، عامها الثامن والسبعين. أكثر من ستين عاماً أمضتها السيدة في عطاءٍ فنيٍ متفردٍ. منذ أواخر الأربعينيات إلى اليوم وهي تغني. كانت آخر إطلالة لها عام ٢٠١٢ بمناسبة الجمعة الحزينة. اتشحت بالأسود واقتصرت صلواتها على ترتيلة واحدة «معنا هو الله».
«من لا يحب فيروز ويتشوق لمعرفة كل فيروز؟» (نازك باسيلا). فيروز آثرت الغناء على الكلام، في مختلف مراحل حياتها. «أصدق البوح لا أقوله إلا غناءً»، قالت (ملحق «النهار» ١٩٩٢). نحاول البحث عن تاريخ صاحبة «فايق ولا ناسي» في صفحات المجلات العتيقة، ونستعيد مقابلات صحافية بارزة، في مسيرتها الطويلة. لكن من الصعب أن نستعرض في مقالة واحدة، علاقة فيروز بالإعلام. فكلما كبرت «المطربة الخجول» (محمد السيد شوشه ١٩٥٦)، ونضجت تجربتها الحياتية والفنية، ازداد كلامها عمقاً وشمولاً.
عاشت فيروز بين العام ١٩٧٣ والعام ١٩٧٩ مرحلة مفصلية في حياتها، بسبب ما واجهته من أحداث على الصعيد الشخصي، كان لها الأثر على مسيرتها الفنية. في تلك الفترة نقع على ثلاثة لقاءات إعلامية بارزة، تعكس صورة نجهلها عن «الصامتة الكبيرة»، المعروفة بابتعادها عن الأحاديث الطويلة في الصحف زمن الخمسينيات والستينيات.
أولى تلك المحطات، سلسلة مقابلات متتالية طالعتنا بها مجلة «الأسبوع العربي» اللبنانية العام ١٩٧٣. أما المحطة الثانية، فهي عند اختتام عروض مسرحية «لولو» في «معرض دمشق الدولي العام ١٩٧٤، حيث سجلت حواراً مع «الإذاعة السورية». وآخرها لقاء على أثير «إذاعة لبنان»، مع محمد الكردي وأميرة علاف بعد عودتها من رحلة باريس العام ١٩٧٩.
في 26 أيلول من العام 1972، أُصيب «دينمو» الظاهرة الرحبانية الفيروزية، عاصي الرحباني، بانفجار دماغي نجا منه بأعجوبة. وفي غضون أشهر، استطاع الرحباني أن يستعيد الحركة والكلام شيئاً فشيئاً. تلك المحنة القاسية التي ألمّت ببيت فيروز، أخرجت منها المرأة الصلبة إلى العلن. وفي صيف العام ١٩٧٣، نشرت مجلة الأسبوع العربي «ذكريات فيروز» على حلقات متتالية، كتبتها الصحافية نازك باسيلا. تعدّ تلك المذكرات من أهم المراجع التوثيقيّة، لما تتضمنه من تفاصيل حميمة سردتها فيروز بنفسها. توزعت الحلقات على عدة محاور، كانت فيها «شاعرة الصوت» (أنسي الحاج) منطلقة في الكلام، حاسمة في المواقف، متحررة من الخجل، تفيض كلماتها بالبساطة والسحر. في الجزءين الأول والثاني غرقت السيدة في روايات عن طفولتها، عن الفقر المدقع الذي عاشته في حي زقاق البلاط، حي الطبقة العاملة في بيروت. حكت عن بيت والديها العتيق المكون من غرفتين ومطبخ مشترك، وعن النزهات الموسمية مع خالها الذي تتذكره كلما استمعت إلى أغنية «يا خالي» من «بياع الخواتم». لا تنسى فيروز صندوق الدنيا الذي كانت تتقاسم إحدى طاقاته الثلاث مع رفيقتها. «شاهدت من عنتر أبي الفوارس نصف شاربه فقط وإحدى عينيه الاثنتين». وتستطرد الابنة الكبرى لوديع حداد في حديثها عن أيام الدراسة: «كرهت الحساب حتى النهاية. ما تعرضت لـ«عمل» وجاءت نتيجته أرقاماً ضخمة إلا وتملكني شعور بالاختناق، فاشتغل على هذه الأرقام إلى أن يروقني شكلها الهندسي من دون التقيد بالقاعدة الحسابية، والغريب أنها كثيراً ما جاءت مطابقة للنتيجة الصحيحة!».
تحتل أحداث الطفولة بين حي زقاق البلاط وأحراش قرية الدبية الشوفية مساحة كبيرة من «ذكريات فيروز». أليست حكايات «ستها الختيارة» هي حكايات الضيعة اللبنانية؟ تسرح في الحديث عن أم والدتها: «بلغ حب جدتي لي أنها احتفظت سنوات طوالاً بآخر كيس من الإبر والأكواز جمعته لها قبل أن يحول عملي دون مرافقتها إلى الدبية. كانت تخرج الكيس عند بداية الصيف من كل سنة وتدخله في أوائل الخريف، ولم ترض أبدا إحراق ما فيه».
تستحضر فيروز الدبية بأدق تفاصيلها، تصف الأماكن بالألوان، كأنّها لم تبرح مسارح الطفولة للحظة: «يتأكد جيران جدتي من وصولي عندما تقابلهم نظافة المصطبة. كانت جدران البيوت وأرضها تزدهي بالتربة الشقراء ذات الرائحة العطرة. نذوبها في الماء ثم نمزجها وندلكها بحجر أملس، فتصبح حريرية الملمس، حلوة الشكل، ولكن سريعة العطب، كخد صبية. على من يسير فوقها أن يخلع حذاءه ويترفق في خطاه كي لا تمتلئ بالحفر الصغيرة ويقتلع الطين من مكانه».
في الجزء الثالث من «ذكريات فيروز» تتحدث «عطر الليل» عن الصبية التي تتلمذت أولاً على يد الأخوين فليفل، واللذين دفعا بها إلى التعلم في المعهد الوطني للموسيقى. وتمر على حادثة غنائها «يا زهرة في خيالي» بحضور الفنان حليم الرومي بطلب من أسعد الأسعد مدير الإذاعة اللبنانية: «حين اقترح حليم الرومي الخيار بين فيروز وشهرزاد اتفق الجميع على اسم فيروز، وحسناً فعلوا لأنني لا أتصور نفسي شهرزاداً! لم آلف اسمي الجديد بسهولة وبقيت وقتاً طويلاً أتلفت حولي لأرى من تكون فيروز هذه». وعن عاصي الرحباني، عازف الكمان والموسيقي الشاب الذي قابلته في الإذاعة اللبنانية: «جمعني إلى عاصي العمل المشترك والارتباطات الكثيرة. وقد تحولت علاقتنا تدريجياً إلى ما هو أرق وأوثق من مودة عادية بين زميلين. وقد رأيت فيه صلتي الوحيدة بالعالم خارج الإذاعة وبيتنا».
ولا تختتم صاحبة «شام يا ذا السيف» حديث البدايات من دون العودة إلى ذكريات حلوة عاشتها في دمشق: «دعيت إلى دمشق للغناء برفقة فرقة سيمفونية مؤلفة من خمسين عازفاً وأنا ما أزال في زي تلميذة. اختاروا لي قصيدة «عنفوان» للشاعر عمر أبو ريشة، فتعذر علي حفظها لضيق الوقت. رجوت عاصي والقائمين على الحفلة أن يدعوني استعين بنص القصيدة، لكنهم رفضوا وأصروا على الرفض رغم إلحاحي. تهيبت الموقف وخشيت أن تخونني ذاكرتي. فطويت الورقة وأطبقت يدي عليها جيداً. حين «فتشوني» قبل خروجي إلى الجمهور لم يعثروا على شيء وما أن افلت من التفتيش واعتليت المسرح حتى أخرجت الورقة من مخبئها واستعنت بها للغناء».
الجزء الأخير من «ذكريات فيروز» جاء تحت عنوان «ماذا أقول عن الشهرة؟ مرّها يتغلب على عسلها وعذابها أوفر من لذتها». هكذا تنطلق فيروز في الكلام عن متاعب العمل الفني: «ليت الجمهور الذي أبادله حباً بحب وأشتاقه كلما قدر لي أن ابتعد عنه ولو قليلاً، ليت هذا الجمهور يدرك مدى المجهود الذي بذلته حتى استطعت أن أدق على الدربكة في «هالة والملك»». وعن أدوارها المسرحية: «بين الشخصيات وبيني تقارب في الانفعالات والتصرف».
في نهاية «ذكريات فيروز» كتبت الصحافية نازك باسيلا: «انتزعت فيروز هذه الذكريات من ذاكرة غالباً ما تخونها. لكن الغريب أن هذه المفكرة التي تغفل تدوين أحداث هامة مابرحت تستعيد بحرقة وحنان أصغر أحداث طفولتها. أما الشهرة التي قالت عنها أنها سجن ذهبي القضبان. وهذا القفص الذهبي، لم ينسها حرمان طفولتها ولم يعوضها مرض هلي ثاني أولادها الأربعة، حزن عمرها، وهم يومها وغدها».