2013/05/29
محمد رُضا – دار الخليج
في العام 1962 اتخذ الزعيمان الراحلان جون ف . كندي ونيكيتا خروتشيف وضعاً قتالياً حول جزيرة كوبا، كانت تبنّت النظام الشيوعي، بينما موسكو تبنت الدفاع عنه وأرسلت طاقماً من صواريخها الموجّهة إلى الساحل الأمريكي غير البعيدة . وفي المقابل هدد البيت الأبيض، بالتدخل العسكري إذا ما استلمت كوبا صواريخها المنصوبة، والوضع ازداد توتراً والحرب الباردة سخنت والسباق إلى القمر زاد الأمور تعقيداً، وفي ذلك العام تحديداً وُلد فيلم جيمس بوند الأول متشرّباً الحرب الباردة بالكامل، وبعد خمسين سنة ليس هناك كندي وليس هناك خروتشيف، لكن جيمس بوند لا يزال موجوداً .
“سكاي فول”حصد إيرادات عملاقة في عروضه البريطانية مسجّلاً 20 مليون باوند (نحو 32 .4 مليون دولار) في أيامه الثلاثة الأولى، وبذلك هو ثاني أغلى الأفلام التي أنجزت إيرادات في “الويك إند”الأول لها من بعد “هاري بوتر والمقدّسات المميتة - 2” . هذا الرقم هو أعلى بنحو سبعة ملايين جنيه عما حققه “كازينو رويال”في العام 2006 وأكثر بنحو خمسة ملايين جنيه عما حققه “كمّ العزاء”(2008) .
خمسون سنة مرت على السلسلة السينمائية الأشهر عالمياً منذ أن ظهر شون كونيري بالشورت على شاطئ الكاريبي وجلس تحت شجرة صغيرة يرقب أرسولا أندرسن، كما لو كانت حورية . لكن بوند الحالي لا يتمتّع بما كان بوند الأول يتمتّع به، في الأفلام الثلاثة التي قام دانيال كريغ ببطولتها قلّما تجد على وجهه ابتسامة، أو في وقته متّسعاً للراحة، وهو بالكاد يعيش حياة مترفة وحتى الأجهزة الرائعة التي كانت متاحة لشون كونيري وروجر مور من سيارات تنقلب إلى غواصات، وأقلام حبر تصلح لكي تحمل متفجرات، أو زر كم يحتوي على خيط مشدود يتيح لبوند استخدامه للانتقال بين مرتفعين، وكل ما لدى بوند العصر الحالي هو مسدّس لا يعمل إلا ببصمته، وآلة صغيرة ترسل إنذاراً في وقت الخطر .
إنه عالم غير العالم الماضي . الحرب الباردة كانت شلالاً من الثلج بالمقارنة، أو كما تقول رئيسته “م”(جودي دنش) في هذا الفيلم “بالأمس كنا نعلم من هم أعداءنا . الآن لا وجه للأعداء ولا بلد أو خريطة . نحن الآن في وضع أخطر مما كنا عليه سابقاً” . تقول رداً على استجواب الحكومة لها حينما تبيّن أن أحدهم خرق أسرار المخابرات البريطانية لتؤكد أن أشرار الستينات والسبعينات كانوا أكثر وضوحاً من أقرانهم اليوم .
هذا الجزء الثالث والعشرون من سلسلة بوند أكثر تعاملاً مع العالم الحاضر ومشاغله ومشكلاته . صحيح أن الإرهابي الذي في الفيلم لا ينتمي إلى كتلة سياسية او دينية، بل هو إرهابي، اسمه سيلفا ويقوم بدوره جافييه باردم، يعمل لحسابه ويعيش فوق جزيرة كانت آهلة بالسكان قبل أن يستولي عليها من سكّانها بعدما أشاع أن تلوثاً نووياً أحاق بها، سيلفا لديه حساب قديم مع رئيسة الاستخبارات “م”التي، حسب وصفه، نكّلت به قبل عشرين سنة . بدورها تعيش “م”كابوساً فهي أصدرت الأمر بإطلاق رصاصة صوب هدف غير ثابت، والرصاصة أصابت بوند ولم تصب عدوّه، وبوند ماتة لقد سقط في الماء وشاهدناه يغرق على أنغام أغنية المقدّمة التي تغنيها أديل . هذا في الدقيقة العاشرة من الفيلم .
حقيقة أنه ظهر فجأة من دون اكتراث الفيلم لتحديد الكيفية . بعد خمسين سنة فإن شخصية بوند، بصرف النظر عن حقباتها المتغايرة، باتت أسطورة، والأسطورة لا تموت . في الواقع، موتها الافتراضي وظهورها بعد ذلك هو مثل ترسيم حدود عريضة يختلط فيها الموت بالحياة، صحيح أن أفلاماً أخرى كثيرة قدّمت أبطالها كما لو ماتوا في مكان ما من الفيلم، لكن ذلك التقديم، في أغلب الأحوال، كان أقرب إلى التفعيلة التشويقية، وهو أقرب إلى تجسيد بوند كحضور وجداني .
وعلى الرغم من أن العالم الذي يتعامل الفيلم الجديد معه هو واقعي بمخاوفه من حروب إرهابية تستخدم فيها التكنولوجيات الرقمية والإلكترونية على نحو يتجاوز الخيال، إلا أن المشكلة - الصميم هي شخصية . لم يعد الروس والهنود والصينيون أعداءً . قضى بوند في السنوات الأربعين الأولى على تلك الشخصيات التي كانت تعمل خارج حدود دولها لتشعل فتيل حرب عالمية هنا أو الإضرار بالاقتصاد الدولي هناك . بوند منذ استلام دانيال كريغ البطولة يعمل على حل مشكلات شخصية إلى حد بعيد . عداء مهني بين بوند ورئيسته . حالات انتقام شخصي . أشرار لا يكترثون لمن يربح الحرب المقبلة بل يريدون الاقتناص من بوند لذاته (وفي هذا الفيلم من “م«) . بوند في مداولاته في الأفلام العشرين السابقة هو غيره في الأفلام الثلاثة الأخيرة . حتى مشاهد الحب ليست مثيرة والعري ليس مجّانياً والوقت المخصص لها محشور . في بوند اليوم لا يوجد ما هو سعيد يزخر بفرص السخرية .
بوند بذلك يختلف عن ذلك الذي أحبّه البعض لمغامراته، وكرهه البعض لسخريته الهازئة من كل شيء . بوند الحالي يُصاب ويتألّم ويشكو ويشعر بالضير، إنه شخصية طوّرته السيناريوهات الأخيرة حتى أصبح إنساناً، في ذلك يلتقي وشخصيات “السوبر هيرو”الأخرى: باتمان يكشف عن ملامح إنسانية، كذلك بورن في سلسلته الجاسوسية، بوند لا يستطيع، كمشروع مرشّح للاستمرار لسنوات أخرى مقبلة، أن يتصرّف كما كان سابقاً . الحياة الحاضرة لا تسمح له بذلك .
أخرج هذا الفيلم سام مندس (“جمال أمريكي«، “الطريق إلى الهلاك”من بين أخرى) وهو ينجز بلا تردد أحد أفضل أفلام بوند منذ تاريخه الأول، في بعض النواحي أفضلها بالفعل، سابقاً ما حاول آخرون شحن بوند ببعض الفن، وبينما هو مثير ومشوّق للغاية، هو أيضاً عمل مشغول بفن في عناصر وبصرياته كلها .