2013/05/29
جنى نخال – السفير
لا يمرّ نهار في بيروت، من دون أن يتبعك أطفال سمرٌ، يتسوّلون في الشمس. أحياناً، تعطيهم بعض الفكّة، «فيرتاح ضميرك» لبرهة. تخبو رائحتهم وصورة عيونهم العسليّة، وهم يبتعدون، ويبقى إحساس خفيف بالذنب. ما أصفه هنا، قد ينعكس على تجربة أوسع وأشمل، إن كنت تشاهد فيديو برنامج «مشروع الحرية» الذي تقوده «سي. أن. أن.» بهدف «إنهاء العبوديّة الحديثة». يقوم المشروع منذ فترة ليست بقصيرة، على رصد حالات العبوديّة حول العالم، وبثّ تقارير عنها على شاشتها، وتوثيقها ضمن مدوّنة خاصة تحمل اسم المشروع على موقع «سي. أن. أن.» الأمر. وتشتمل المدوّنة على مقالات، وصور، وأشرطة فيديو. من موريتانيا إلى الهند وباكستان، وحتى صحراء سيناء، يتجوّل البرنامج «ليمحو» ما يسمّيه «الاستعباد الحديث»، والذي يقسمه إلى فئات منها الاستعباد في العمل المنزلي، و«الأحلام العامّة». أهمّ مؤسسة إعلاميّة في العالم، تريد محو الاستعباد عن وجه الكرة الأرضية. لكنّ الغريب أنّ المشروع لا يتطرّق في أية لحظة إلى الأسباب التي جعلت تلك المناطق «المتخلّفة»، ساحةً للنزاعات، ومرتعاً لـ «الاستعباد الحديث».
يشبه «مشروع الحرية» أفكار وانتاجات هوليوود حول فكرة الجيش الأميركي، الجاهز دوماً لـ «نشر الحرية والديموقراطية» في العالم. لكن هل تعني كلمة «حريّة» كما يسمعها من يشاهد البرنامج، أي شيء لأولئك الفقراء؟ هل تعني أيّ شيء للأطفال المجبرين على العمل في الدعارة؟ تقدّم لنا «سي. أن. أن.» في تجربتها هذه، نموذجاً عن العين الغربيّة التي تنظر «من عليائها» إلى شعوب العالم الثالث. تنظر بكامل حصانتها وامتيازاتها إلى ذلك الملوّن، الفقير والمعذب، وتقول: «همم. إلى ما يحتاج هؤلاء يا ترى؟»
وكالعادة، يظهر مفهوم الحرية ملحقاً بالديمقراطية وحرية التعبير وحقوق الأقليات، كمادة دسمة ومثيرة. بالطبع، لا يمكننا القول إلا أنّ العالم الثالث يفتقد بالفعل إليها كلّها في أغلب الحالات. لكنّ تلك «الوصفة السحريّة»، التي تقدّمها «سي. أن. أن.» حلاً للعبوديّة الحديثة، ليست إلا تجسيداً لإسقاطات أزمنة العبوديّة القديمة، على عالمنا اليوم، حين كانت البورجوازية المستعمرة، تسقط أحلامها وحاجاتها وتصوّراتها وسرديتها، على الطبقات الكادحة والمستعبدة والمستعمرة وأحلامها. مثالٌ على ذلك، جمعية خيرية أميركية «تهب» مدرسة هندية مجموعةً من الكومبيوترات، والمدرسة لم تصلها الكهرباء بعد! في مقال عن كولومبيا مثلاً، يخلط الكاتب بين المجموعات اليسارية المناهضة للحكومة الكولومبية، وعصابات المخدرات والإقطاع وميليشياتهما المحاربة لتلك المجموعات اليسارية أصلاًَ. ولا يأتي ذلك المقال على ذكر ضلوع الحكومات الأميركية المتوالية في تمويل ودعم كارتيلات المخدرات والدعارة في كولومبيا، أو تمويل الميليشيا المقاتلة للسكان الأصليين، وبالتالي خلق الجو المثالي لاستغلال الأطفال والنساء، و«استعبادهم». ولا يمكن أن يفوتنا مقال آخر عن «الملكة السويدية» التي تصرف (من جيبها الخاص؟) ملايين الدولارات سنوياً لإيقاف الاستغلال الجنسي للأطفال، تمنحها لمؤسسات المجتمع المدني لمحاربة مجرمي أفريقيا ومسلّحيها. لا نعرف كيف يمكن لتلك الملايين وقف الجريمة؟ على صفحة البرنامج نفسه، ثلاثة أفلام وثائقية قصيرة عن سيناء، تحكي قصصاً عن استغلال لاجئين أفارقة، يحاولون الهرب إلى الأراضي المحتلة. لم هربوا من بلادهم؟ لا نعرف. لا شيء على الموقع يفيدنا. «تقتلهم عصابات البدو» (وهم عرب بطبيعة الحال)، و«يهربون عبر «الأنفاق» (لا أحد يأتي على ذكر سبب حفر تلك الأنفاق) هذا كلّ ما نعرفه من «معلومات».
على الموقع نفسه، ندخل الصفحة المعرّفة للـ«وقائع»، فنقرأ: «ينقسم العبيد إلى ثلاثة أنواع. تحارب هذه المؤسسات الاستعباد بهذه الطريقة. تقدّمت القوانين وقدّمت للعبيد حياة أفضل». كأننا أمام مختبر أبيض ناصع، يتمّ إحصاء البشر. كأننا نعيش في عالم من الأرقام.
في كتابه «سيطرة الشركات الكبرى على التعبير العام»، يحلل هيربرت شيللر تموضع الإنتاج الفني ــ الثقافي ــ الإعلامي في واقعه الاقتصادي/ السياسي. ويكتب: «إن الشكل الموضوعي للفيلم/ المنتوج الإعلامي، هو وجوده كسلعة. إنّه إنتاج اليد العاملة، والهدف منه هو قيمة التبادل مما يوحّده مع أي شيء في النظام الرأسمالي تقريباً». أي منتج إعلامي هو سلعة إذاً بحسب شيللر، ونحن مستهلكون. نتلقّى هذه الرسائل ونقتنع بصحتها وجدواها، ونغلق أعيننا عمّا يمكن أن يكون الحقيقة. في هذا السياق، تكمن المشكلة في خطاب «مشروع الحريّة» الذي يبسّط الأمور ويقول بأن «حل المشاكل سهل». لكنّ الأسئلة الصعبة تغيب: ما الذي جعل بلادها فقيرة ودمّر اقتصادها؟ ما الذي دفع أماً لتترك ابنها ليعمل في الشارع؟
ربما وجب على «سي. أن. أن.» تغيير اسم المشروع، ليصير عوضاً عن «ذا سي أن أن فريدوم بروجيكت» «غمرتونا بلطفكم بروجيكت»!