2013/05/29
مارلين سلوم- دار الخليج
دعك من كتب التاريخ الملأى بحكايات عن الحروب والثورات والاستعمار . . فهناك أنواع أخرى من النزاعات والصراعات بل الاحتلالات التي تتجاوزها الكتب، لكنها تبقى عالقة في أذهان الشعوب وترويها يومياتهم ومدارسهم وثقافاتهم وتسمعها في أغنياتهم وتراها في أفلامهم .
هذا النوع من “الاحتلال”نعيشه حالياً مع عودة “الزحف التركي”إلى عالمنا العربي، والذي لم يأخذ طريق الحروب والسياسة، بل جاء من أكثر الأبواب سلاسة والتي تبقى مشرعة دائماً على احتضان الآخر، وهي الفن . طبعاً قد يرى البعض الفن التركي مجرد ترفيه أو موضة وستعبر كما عبرت من قبلها المسلسلات المكسيكية في فترة من الفترات، حين كان الإقبال على مشاهدة هذه المسلسلات المدبلجة يفوق الرغبة في مشاهدة الدراما العربية، لكن التمدد الحاصل والذي نشهده في أكثر من مجال، يؤكد العكس ويثبت أنها ليست “مجرد سحابة”بلا أمطار .
من باب الدبلجة جاءت الدراما التركية لتغازل الشعوب العربية، في الوقت الذي كانت فيه دراماهم المحلية نائمة على عروشها وعلى أمجاد الماضي العريق . وكانت التجربة ناجحة مع مسلسل “نور”الذي تعدّه الدراما التركية من أضعف إنتاجاتها، لكنه لسبب ما، أخذ رواجاً أكبر من قيمته وحجمه، وفتح الأبواب أمام سلسلة طويلة من الأعمال لتتوالى . وقتها أيضاً، حسبناها موضة جديدة تشبه سابقاتها المكسيكية والبرازيلية، والتي لم تتعد حدود الظاهرة، وسرعان ما تراجعت وخفت بريقها، ليس بسبب استعادة الدراما العربية مكانتها وفوزها في حلبة الصراع على جذب المشاهد واستعادته من غريمتها الأجنبية المدبلجة، بل بسبب عدم اهتمام صناع الفن في المكسيك والبرازيل بحالة الانبهار التي أصابت العرب، فتركوا النار تهدأ حتى انطفأت ببطء .
في المقابل، أثبت الأتراك أنهم أذكى من أسلافهم، فأمام “بالون الاختبار”مسلسل “نور”وبطله مهند الذي صنع العالم العربي منه نجماً قبل أن يتحقق له ذلك في بلده، وهو ما لم يكن يحلم به، استدار صنّاع الفن هناك نحو بلاد الشرق وجيرانهم العرب، ليعقدوا صفقات ويبدأوا في تصدير مجموعة مسلسلات عاطفية، تلتها أعمال تاريخية مثل “حريم السلطان”الذي تجاوز موضة الحلقات الطويلة بامتداده إلى جزأين ولا نعرف إن كان الثالث آتياً أم لا . وبعد أن بدأت العروض على قناة واحدة، انتشرت إلى مجموعة قنوات عربية، والأغرب أن الدراما التركية نجحت حيث فشلت الدراما الخليجية والسورية واللبنانية والمغربية، فتسللت إلى القنوات المصرية وأحكمت قبضتها على المشاهد لتجد إقبالاً واسعاً، وتبدأ في منافسة “أم الدراما العربية”في عقر دارها . وأي منافسة، فهل كان يتوقع أحدنا أن يرى الفنانة المصرية سميرة أحمد وهي حائرة بين الممثلين التركيين كيفانج تاتليتوج المعروف ب”مهند”وإنجين أكيوريك “كريم”ليشاركها في مسلسلها الجديد “قلب أم«؟
* * *
أثبتت الدراما جدارتها في كسب ود المشاهد العربي، فذهب أهل الفن في تركيا إلى تقديم أنفسهم صناع سينما، ودخلوا أيضاً من باب التلفزيون أولاً، من خلال عرض مجموعة أفلام على بعض القنوات المشفرة ومن بعدها المفتوحة . وبما أن الأفلام تمت دبلجتها بطريقة الدراما نفسها، لقيت إقبالاً وأدت إلى تمهيد الطريق أمام الفيلم التركي كي يعرض في السينما وينتظر الجمهور ليأتي إليه . وأبعد من الصالات، سارت الأفلام التركية نحو مهرجان القاهرة السينمائي لتشارك في دورته المقبلة بستة أفلام، وهي المشاركة الأولى من نوعها، وإن لم تكن الأفلام كلها تركية صرفاً، ولكنها تشير إلى مرحلة جديدة ستعرفها الصالات في العالم العربي، لا تختلف كثيراً عن تلك التي تعيشها القنوات . وماذا يعني أن تنتشر الدراما والسينما التركيتان بهذا الشكل؟ يعني أن فكراً جديداً يتسرب إلى عقول المشاهدين، وثقافة اجتماعية ومعتقدات سيعرفها شبابنا ويعيشونها على الشاشات أولاً قبل محاولة تقليدها وتطبيقها على حياتهم ثانياً .
ولأن الفن كلّ لايتجزأ، انساب هذا الانبهار العربي إلى كل أعضاء الفن، فبدأت تتدفق إلينا العروض والاستعراضات، ونغمات المسلسلات وأغانيها المتداولة على الهواتف والمنتشرة على اليوتيوب . هنا أيضاً نشهد حقبة جديدة مع انطلاق العروض التركية الحية في بعض العواصم والمدن العربية، وكان آخرها غناء التركية إيلين تاشجي في الاسكندرية في حفل كبير بدأ بافتتاحية موسيقية لفرقة “اسطنبول”المكونة من أربع عازفات .
* * *
لنقلب الصفحة وننظر إلى أنفسنا ماذا نفعل، وكيف نقدم فننا؟ هل نقدم الصناعة الدرامية والسينمائية كما يستحق التاريخ الفني العربي؟ لماذا لا تصل الدراما الناجحة والأفلام والأغاني إلى تركيا بالشكل القوي لتبهر الناس كما يحصل عندنا؟
ليس لأن ما يقدمه الفنانون العرب أقل إبهاراً أو قيمة من “البضاعة التركية«، بل لأننا لا نحسن تسويق بضاعتنا ومتابعتها من منطلق مفهوم الصناعة، بل يقتصر الأمر دائماً على اجتهادات فردية يقوم بها بعض المنتجين والمخرجين والمغنين، تكلل بالنجاح ضمن إطارها الضيق، ويفرح أصحابها بإنجازهم الذي حققوه خارج بلدهم، سواء في تركيا أو غيرها، ويتحدثون عن خطوات تالية ومشاريع تتم دراستها، وفجأة يتبخر الكلام وينتهي الحلم .
هل فعلاً تنقصنا الصناعة الفنية بالمفهوم الحرفي والتي تضع نصب عينيها منذ انطلاق المشروع شروط التسويق ومدى أهميته، وتعمل بحق على حمل إنتاجاتها إلى الأسواق الخارجية وتشترط المبادلة الفنية والدبلجة المعاكسة من العربية إلى أي لغة أجنبية أخرى؟
نحن قدمنا تأريخاً لحقبة مهمة من التاريخ العثماني، في مسلسل “سقوط الخلافة”الذي يعد ككثير من أعمالنا التاريخية مرجعاً يمكن الاستناد إليه للعودة إلى حقب زمنية محددة، فماذا قدم “حريم السلطان”غير صراعات ومكائد وإغراءات الحريم؟ لماذا يصيبنا هذا الإبهار بالدراما التركية كما أصابتنا سهامها السياسية في السنوات الأخيرة، وبات كثير يرددون الصوت التركي ويسعون لإحياء زمن العثمانيين؟
للأسف كثير يتركون الأرض الخصبة تجف ولا يحسنون استغلالها بمزيد من الري والزراعة كي تثمر أكثر . وكثير يفتقدون إلى روح “الجماعة”في الفن، ويخافون من انتشار زملائهم ونجاحهم في الخارج، ويفضلون الحروب الداخلية وتكسير الأجنحة لإعاقة تحليق المنافسين، ولا يرون أن في التحليق الجماعي “غزواً ثقافياً وفكرياً إيجابياً«، يحتاج إليه العالم العربي بشدة، في ظل فشل الغزوات والمعارك السياسية والحياتية المتتالية .