2013/05/29
سامر محمد إسماعيل – الوطن السورية
العدد المتزايد للمحللين السياسيين باطراد على شاشات الفضائيات العربية ظاهرة تستحق الوقوف عندها، ولاسيما أن هؤلاء باتوا يساهمون اليوم في صياغة الرأي العام العربي عبر ما يقدمونه من معلومات حول موقف سياسي أو اقتصادي من هذه الدولة أو تلك، أو حتى عبر ما يقومون به أحياناً من تسريب معلومات استخباراتية عن لقاءات وطبخات سياسية في الكواليس
أو مناورات وضربات عسكرية محتملة شرقاً وغرباً في منطقة عربية مابرحت تهتز على صفيحٍ ساخن، خصوصاً بعد اندلاع شرارة ما يسمى «الربيع العربي» مع حادثة إحراق بائع خضار تونسي لنفسه بولاية سيدي بوزيد ربيع 2011 الماضي؛ من هنا أفرزت التلفزة العربية ما يشبه نُخباً جديدة قوامها جيش من المحللين في مختلف الاختصاصات والاتجاهات، فهم يتكاثرون بسرعة هائلة على الشاشات، يوزعون آراءهم العاجلة ويثوّرون مواقف ضد مواقف أخرى، يصرخون ويتقاذفون الشتائم ويتبادلون تُهم الخيانة والعمالة والارتهان للأجنبي أو العمل كأبواق لدى السلطة؛ وربما وصلت بهم الحكاية إلى حد الاشتباك بالأيدي على الهواء مباشرة، كما حدث بين المعارض السوري محي الدين لاذقاني والمحلل اللبناني جوزيف أبي فاضل على شاشة «الجزيرة» في إحدى حلقات برنامج «الاتجاه المعاكس». هكذا نحج الإعلام العربي في تصنيع نُخب جديدة ميدانها الرئيس حلبات بصرية لديكة تتصارع على مدار الساعة، ليكون المُشاهد في هذه الأثناء رهن رأي هذا المحلل أو ميول ذاك، دون البحث عن أهلية حقيقية لعشرات البرامج التي توّظف آراء هؤلاء المحللين في مصلحة دعم فرضية الأجندة الخاصة بهذه الفضائية أو تلك، ولنصل في النهاية إلى ما يشبه «كباش تلفزيوني» أو حرب تلفزيونات لا صلة لها بموضوعية التفكير أو التحليل المنطقي للأحداث، بقدر ما يهمها في النهاية تغليب رأي على آخر مهما كلّف ذلك من افتراءات وتزوير في الحقائق ولوي عنق المعلومة. يبدو ذلك جلياً اليوم مع اقتراب الأزمة السورية من إكمال عامها الثاني، فلا أحد يستطيع إنكار دور المحللين السياسيين والخبراء الإستراتيجيين ومن لفَّ لفّهم في تحشيد الآراء السياسية ودعمها سواء لجهة محللي السلطة أو محللي المعارضة، حيث سنجد البون شاسعاً بين جبهتين مشتعلتين على الدوام، فمحللو الدولة السورية -”أكثريتهم من اللبنانيين» اشتهروا عبر عشرين شهراً من عمر الأزمة بكلمة «خلصت» الكلمة التي أطلقها الإعلامي اللبناني المعروف رفيق نصر اللـه كشعار من على قناة «الدنيا» في الأشهر الأولى من الأزمة، وجاء التهكم عليها بعد ذلك بجملة أطلقها نشطاء على مواقع التواصل الاجتماعي تقول: «سورية خلصت والأزمة بخير»! فيما تفرّد «عزمي بشارة» بفضيحة كبرى عبر تسريب مقطع فيديو تم نشره على اليوتيوب من برنامج « في العمق»، وفيه يظهر المفكر الفلسطيني أثناء الاستراحة؛ طالباً -تحت الهواء- من المذيع السعودي علي الظفيري عدم ذكر الأردن والبحرين في تحليلاته والتركيز على سورية حيث اشتهرت كلمة الظفيري وقتها لضيفه بشارة: «بيّض صفحة المؤسسة». فضيحة مدوية اعتبرها الكثيرون بالنسبة لوزن بشارة وأخلاقيته كمثقف عربي معروف جعلت الكثيرين ينتبهون إلى انتهازية العديد من المثقفين العرب الذين تم شراؤهم بأموال النفط العربي مقابل تغيير مواقفهم السياسية والتبعية نهائياً لأجندات هذا المال ومآربه في المنطقة. من هنا يمكن الحديث اليوم عن عشرات الجبهات المفتوحة بين محللين من كل الأنواع، وبصفات ما أنزل اللـه بها من سلطان على نحو: «خبير في الشؤون الحربية، مدير مركز إستراتيجي، مستشار عسكري، محلل اقتصادي، ناشط حقوقي» الخ..
المشكلة اليوم أن الكثير من هؤلاء المحللين الذين يتقاضون أجوراً عالية لقاء ظهورهم في البرامج الحوارية الساخنة، باتوا يشكلون اليد الطولى لتكريس سياسة القناة التي يتكلمون من على منبرها؛ منتمين بقوة إلى البروباغاندا الخاصة بها، ولاسيما عندما تلجأ قنوات عربية دولية باستضافة العديد من «مفكري التلفزيون» من مشرب سياسي متقارب لمناقشة القضية السورية، متجاهلةً رأي محللين من الضفة الأخرى، والغريب أن مثل هذه الفضائيات ما زالت ترفع شعار «الرأي والرأي الآخر» أو شعار «أن تعرف أكثر» فيما بات المشاهد يتوقع ضيوف هذا البرنامج أو ذاك، والأغرب أنه حفظ عن ظهر قلب كل ما سيقولونه نتيجة التكرار الهائل للرسالة الإعلامية الخاصة بالمحطة، واستنفاد فرص الإشباع الإعلامي الذي وصل مؤخراً حد التخمة، وخاصةً أن هذا النوع من «النخب» لا يمكن الركون لآرائهم، فمن المعروف أن التلفزيون يبحث دائماً عمن يسميهم عالم الاجتماع الفرنسي الراحل بيير بورديو بـ«مفكرين على السريع» متسائلاً: «ما الذي يدفع هؤلاء للتفكير تحت ضغط الزمن التلفزيوني والمساحة الضيقة المُعطاة لهم بين غابة من البرامج وفقرات الأخبار والإعلان؛ سوى تلك الرغبة العارمة لحب الظهور؟» فانخداع «المفكر التلفزيوني» بسطوة الفضائيات وسعة انتشارها تجعله «زبوناً طيباً» ومُرحباً به على شاشاتها، شريطة أن يدعم السياسة التحريرية للمحطة بكل أنواع الدجل والشعوذة الإعلامية وتبرير ما لا يمكن تبريره.