2013/05/29
علاء الدين العالم – تشرين
انطلاقاً من قصص الجدات، ومروراً بالأقاصيص التي تأتي في الكتب الدينية، وانتهاء بالأفلام السينمائية والمسلسلات التلفزيونية التي صورت السيرة النبوية، ترسخت صورة «كفار قريش» في ذهن المشاهد العربي على أنهم ثلة من الوحوش لا رحمة في قلوبهم ولا شفقة وليس لهم نفس تشعر وتلتاع بها العواطف، ناهيك عن التشويه الشكلي لشخص «كافر قريش»، حتى تمظهر في أذهاننا على أنه شخص فارع القامة عريض المنكبين قوي الشكيمة قاسي الخلقة عابس طوال الوقت، غليظ الصوت يصرخ في كل الأوقات، بعيد كل البعد عن الإنسانية، حتى كدنا نشعر بأنه مخلوق لحمي شرير على الدوام، ناهيك عن ارتباط هذا الشكل الخارجي وأفعال هؤلاء الكفار السيئة مع المسلمين في بداية الدعوة، والمكائد الدنسة التي حاكوها للرسول الكريم آنذاك، وهذا ما عمّق إحساس الإنسان العربي بأن هذا الكافر ما هو إلا وحش بزي إنسان.
«عمر».... كفار قريش والالتفات إلى الجانب الإنساني
عبر العديد من الأمور تمكن مسلسل «عمر» تأليف وليد سيف وإخراج حاتم علي، من كسر هذه الصورة النمطية التي تكرست في أذهاننا عن «كفار قريش»، حيث التفت العمل إلى الجانب الإنساني والفكري عند هؤلاء الكفار، فرأينا «أبا لهب، فايز أبو دان» يتنازعه شعوران متناقضان قبل القيام بأفعال ضد النبي محمد «ص» ابن أخيه، الشعور الأول تمثل بنكران أبي لهب للدعوة ونكرانه لصاحبها ابن أخيه اليتيم، والشعور الثاني هو قرابة الدم بينه وبين النبي (ص)، كثيرا ما ظهر هذا الشعور على أبي لهب في مجلس قريش وناديها عندما يبدأ الجمع بسب الرسول وتقريعه، وهنا يتوضح شغل المخرج «حاتم علي» على إبراز تقاسيم الحيرة والتخبط على وجه أبي لهب من خلال لقطات قريبة، هذا الشعور الذي اشتغل «أبو دان» على إظهاره ببراعة عالية ولاسيما في المشهد الذي يتواجه به «أبو لهب» وأخواه «حمزة وأبو طالب» عند باب بيت الرسول حيث كان أبو لهب قد ألقى قمامة بيته على باب الرسول كي يعيقه عن الخروج من المنزل، في هذا المشهد يظهر أبو لهب الإنسان، فهو يشعر بالخجل والخزي من تصرفه مع ابن أخيه، وهنا تسقط عداوة الدين والاعتقاد لتتجلى قرابة الدم بين العم وابن أخيه. كذلك نجد التركيز على الجانب الإنساني عند احد أهم كفار قريش وأكثرهم عتيا وإلحادا «أمية بن خلف» الذي أدى دوره الفنان الكويتي «غازي حسين»، يبرز الجانب الإنساني عند «أمية بن خلف» في المشهد الذي يقتاد فيه الصحابي الجليل «بلال الحبشي» للتعذيب أمام جمع المشركين لكي يريهم أن عبده لن يستجيب لدعوة النبي «ص» وسيرجع إلى ديدن آبائه وأجداده، ويبدأ بضربه بالسوط إلى أن يرهق «أمية» من فعل الضرب وبلال لا يستجيب لدعوات «أمية» بالكفر، وهنا يقترب «أمية» من بلال ويقول: «أرجوك... قل أمامهم فقط.... كلمة واحدة تكفي» لكن بلال لا ينفك عن القول «أحد أحد» ويستمر المشركون بالضحك والاستهزاء من «أمية» الذي عجز عن ردع عبده عن الدين الجديد، إن هذا المشهد يظهر تكافل الكاتب والمخرج والممثل على تظهير الجانب الإنساني عند «كافر قريش» بالإضافة إلى جانب القسوة المتمثل في الضرب والإهانة للصحابي الجليل بلال الحبشي، فعلى صعيد النص نلحظ أن «أمية بن خلف» يلفظ بكلمة «أرجوك» لكي يصل إلى مبتغاه وهو كفر بلال أمام جمع المشركين من قريش، إن استخدام «سيف» لفعل الترجي يدل على الإنسان الذي يكمن داخل «أمية بن خلف»، والذي يتعذب هو الآخر من الخوف والخزي في حال لم يكفر بلال أمام الجمع كما يتعذب «بلال»، وهكذا عمّق فعل الترجي الذي ينطق به أحد كفار قريش إحساس المشاهد بأن هذا الكافر هو (إنسان) تطبع بالشر بسبب الدعوة المحمدية التي تهدد دينه وأمواله ومركزه، أما على صعيد الصورة فإن «علي» عمل على إظهار وجه «أمية بن خلف» وهو ملتصق بالأرض كي يهمس في أذن بلال الحبشي، إن هذا الدنو للسيد وتساويه مع العبد على أرض واحدة وجمعهما بكادر واحد يخلف وجهيهما في الصورة أرض الصحراء الحارة، يدل على تناسي «أمية» الفرق بين السيد والعبد في سبيل الخلاص من العذاب الذي يشعر به بسبب الخوف والخشية من الخزي أمام قريش، أيضا ركّز «حاتم علي» كاميراته في هذا المشهد على وجه «غازي حسين» الذي ظهرت عليه مظاهر التعب والإرهاق والتوق إلى الخلاص من هذه الورطة، وهنا ظهر إتقان الفنان الكويتي القدير لنقل التناقضات التي تشعر بها الشخصية بين شعور السيادة والخوف والخشية من الخزي والإرهاق الجسدي، إذ تمكن غازي حسين من نقل هذه «الجوانيات» وعكسها على وجهه وحركات جسمه من خلال التعرق الشديد والارتباك الذي بدا واضحاً عليه، بالإضافة إلى تظهيره للإرهاق النفسي والجسدي للشخصية.
«أبو سفيان وأبو جهل».. والتركيز على الجانب الفكري
مثلما التفت «عمر» إلى الجانب الإنساني المغيّب عند هؤلاء الكفرة، التفت إلى الجانب الفكري الذي تحمله كل شخصية من «كفار قريش»، وهذا ما تبدى واضحاً في شخصية «أبي سفيان» التي أداها الفنان الجزائري «فتحي الهداوي». إن شخصية أبي سفيان ظهرت في العمل شخصية مفكرة ومتعمقة ومتأملة تبحث عن الحلول التي تخرج قريشاً من هذا الارتباك الذي قد يودي بمركزها بسبب الدعوة المحمدية، ولعل الجهد الرائع الذي بذله الفنان «فتحي الهداوي» في تظهير الجانب الفكري في شخصية «أبي سفيان»، ظهر من خلال شغله على صنع كاركتر لشخصية أبي سفيان مغاير لما هو معهود عن هذه الشخصية التي طال إسلامها، حيث استطاع «الهداوي» إدراك دهاء أبي سفيان، وذكائه الاقتصادي، وحنكته في الخروج من الأزمات المتتالية التي واجهت قريشاًَ أثناء الدعوة، فنراه في مجلس قريش يصدر الأحكام بعد روية وتفكير عميقين، ناطقاً بصوت منخفض هادئ يحمل بين طياته سخرية من هذا الارتباك الذي تعج به سادات قريش من الدعوة، وخير مثال على التجديد في أداء شخصية أبي سفيان، المشهد الذي يلتقي به أبو سفيان هرقل عظيم الروم في فلسطين، ويبدأ الأخير بالتساؤل عن ماهية دين الإسلام، وعن جذور محمد العائلية في قريش، وهنا يظهر على أبي سفيان قدرته على الهروب من مثل هذه المواقف المحرجة، فهو لا يؤمن بمحمد، ولكن في الوقت نفسه النبي محمد «ص» عربي من قبيلته ولا يمكنه أن يصيبه بسوء أمام الغرباء، يضاف إلى ذلك خشية أبي سفيان من خسارة تجارة قريش الموكل إليه تصريفها، إن هذا التناقض يشتغل عليه «الهداوي» من خلال تلعثمه بالكلام مع هرقل بالإضافة إلى نظراته المتهربة من مواجهة ملك الروم، وانخفاض صوته حتى لا يكاد يسمع، إن هذا الارتباك المصطنع هو الذي ينجي أبا سفيان من هذه الورطة، ويخرج من عند هرقل دون أن يصيب محمداً «ص» بسوء ودون أن يظهر أمام قريش بمظهر الكاذب، يضاف إلى هذه الأمور طابع السخرية الذي طبع به «الهداوي» شخصية أبي سفيان، وهو جانب جديد يظهر للمرة الأولى في شخصية تاجر قريش الأول، فنجده يسخر من وجود «وحشي» ذلك العبد الذي قتل حمزة بمجلس قريش، يسخر أبو سفيان من هذا الموقف دون أن ينبس ببنت شفة، وذلك عن طريق استخدامه لسوط صغير يبعد به الذباب كغرض يوظفه ليتجاهل النقاش الذي يدور بين سادة قريش وبين وحشي حول وجوده في النادي، يضاف إلى هذا الفعل ابتسامة صفراوية يرسمها أبو سفيان طوال قيامه بفعل إبعاد الذباب. أما شخصية أبي جهل التي قدمها الفنان العراقي «جواد الشكرجي»، فنلمس فيها التركيز على الجانب الفكري لكافر قريش من زاوية أخرى، وهي زاوية القناعة الفكرية للكافر بأن دين الإسلام سيودي بقريش وبمركزها، وعلى الرغم من أن شخصية «أبي جهل» في مسلسل «عمر» كانت الشخصية الأقرب إلى شخصية «كافر قريش» المحفورة بأذهاننا من خلال قسوته وغضبه الدائم، إلا أن «الشكرجي» عمل هو الآخر بالتعاون مع الكاتب وليد سيف على تمرير مبررات فكرية لتصرفات «أبي جهل» الدموية القاسية، ويتلخص هذا الشغل في أحد المشاهد من العمل، فنرى أبا جهل يضرب المسلمين الأوائل ضرباً مبرحاً دون رحمة، ويتلذذ بهذا الضرب، وهنا يأتيه أحدهم ليسأله عن سبب الحقد هذا، وعن القسوة التي يمتلكها، فيجيب بجملة غاية في البراعة اللغوية والبلاغة العربية، يقول: «إن محمداً يعدنا بجحيم مؤجل.... قل له... إن الجحيم هاهنا»... إن هذه الجملة تعكس البعد الفكري لأبي جهل بالتعامل مع الإسلام، وتظهر مدى الإلحاد الذي وصلت إليه هذه الشخصية، والقناعة التامة بأن ما يقوله النبي الكريم ما هو إلا أوهام وأفكار، إن إبداع سيف في توظيف هذه الجملة في هذا المشهد يتممه إبداع «الشكرجي» الذي ينطق بهذه الجملة بسليقة العربي الأصيل، ودون تفكير بما يقول وسيقول، وبغضب من سيخسر جاهه وأمواله ومركزه في القبيلة. إن هذه النبرة الغاضبة عند أبي جهل التي يستخدمها «الشكرجي» طوال العمل، تظهر مدى خوف أبي جهل كـ(إنسان) يخشى فقدان ما وصل إليه، وكـ(سيد) ترهبه فكرة فقدانه السيادة وتساويه مع العبد، وهكذا وظف الفنان جواد الشكرجي معتمداً على ما كتبه وليد سيف، غضب أبي جهل ونزقه في خدمة إبراز الجانب الفكري للشخصية بعدما كان مغيباً في كل الأعمال السينمائية والتلفزيونية التي تناولت شخصية أبي جهل.
إن التكافل بين النص المتين المسبوك الذي خطه الكاتب وليد سيف، والإخراج الباهر من المخرج حاتم علي، والبراعة في تأدية أدوار كفار قريش من الممثلين العرب، كسر الصورة النمطية عن كفار قريش التي رسمت في أذهاننا، والتي زاد في ترسيخها الأعمال السينمائية والتلفزيونية التي تناولت «كفار قريش»، فظهر في مسلسل «عمر» كفار قريش أناساً طبيعيين لهم همهم الإنساني وأحاسيسهم وعواطفهم، وتناقضاتهم النفسية، ومبرراتهم الاقتصادية ودوافعهم الفكرية التي دفعت بهم ليفعلوا ما فعلوا، مع العلم أن هذا التظهير لا ينفي عنهم أنهم كفار أساؤوا إلى الدعوة الإسلامية وأنهم تطبعوا بالشر، إلا أن هذا الطرح قدمهم بصورهم الواقعية بعيداً عن المبالغة في إظهارهم كأشرار.