2013/05/29
علاء الدين العالم – تشرين
لطالما كان النقد هو رديف الإبداع، وكان الإبداع هو خالق النقد، فلا يوجد إبداع من دون نقد ولا نقد من دون إبداع، إذ إن هذه العلاقة التبادلية بين النقد والإبداع هي التي ترتقي بالمنتج الإبداعي من خلال القراءات النقدية التي يقدمها النقاد ويسعون من خلالها إلى رفع مستوى الإبداع وتطوير المنتج الإبداعي بحيث يلاقي القبول عند المجتمع بشكل عام وعند المختصين بشكل خاص، كذلك فإن نشوء إبداع رفيع المستوى أدى إلى خلق مذاهب نقدية ترقى لأن تكون تيارات فكرية وفلسفية تجاوزت من خلال نظرياتها وظيفتها النقدية كونها تسعى لأن تكون منتجاً إبداعياً مستقلاً بذاته، حاولت الدراما التلفزيونية، وعبر عشرات السنين، تكوين ذاتها الإبداعية المستقلة من خلال ما سُمي بـ «المسلسل التلفزيوني»، والذي حاولت عن طريقه الدراما التلفزيونية سلخ نفسها عن الفنون البصرية، ولاسيما السينما، وإنشاء شكل إبداعي مستقل تُكرَس من خلاله الدراما التلفزيونية على أنها إبداع في حد ذاته. ولعل ما احتوته الدراما التلفزيونية من إبداعات متعددة ابتداء من كتابة السيناريو مروراً بالتمثيل والتصوير، وانتهاء بالموسيقا التصويرية، هو ما جعلها قريبة من الاعتراف بها كإبداع مستقل عن السينما وغيرها من الفنون البصرية, مع العلم بأنه، إلى الآن، لم يعترف البعض بالدراما التلفزيونية كشكل إبداعي مستقل، ومازالوا يلحقونها بالسينما لاسيما أن مصطلح «الدراما التلفزيونية» هو هجين بين كلمتي «دراما» والتي تعني بالمعنى العام «الأعمال المكتوبة للمسرح مهما كان نوعها» وكلمة تلفزيون تيمناً بأن هذه الدراما تعرض على الشاشة الصغيرة.
إبداع غير معترف به....
إن أسقطنا الكلام السالف على الدراما التلفزيونية السورية، نجدها كغيرها من الدراما التلفزيونية، مازالت تصبو إلى الاعتراف بها كإبداع مستقل عن السينما، ناهيك بأن الدراما التلفزيونية السورية تعاني من صعوبات عدة تتمثل في المجتمع الفني القائم في أغلب الأحيان على الشللية السلبية والمحسوبيات وما إلى ذلك، ومازال الكثير من النقاد يرون أن المسلسل التلفزيوني ما هو إلا فيلم طال ليصل إلى 25 ساعة مفرقة على حلقات، حتى إن الجميع يحاكم المسلسل التلفزيوني من منظور سينمائي، بمعنى أن الناقد عندما يقوم بقراءة نقدية لهذا المسلسل أو ذاك يحاكم العمل من زاوية سينمائية وكأنه فيلم سينمائي لا مسلسل تلفزيوني، والسبب في ذلك أن الدراما التلفزيونية لم تتمكن إلى يومنا هذا من الانفصال التام عن السينما, فمكونات الدراما التلفزيونية الأساسية هي ذاتها مكونات السينما «سيناريو، تمثيل، تصوير، إخراج، موسيقا تصويرية» وما أود الإشارة له هنا هو أنه مادامت الدراما التلفزيونية السورية لم تتمكن من إثبات نفسها كنوع إبداعي مستقل لا يمكن نشوء نقد مستقل مختص بنقد المنتج الدرامي التلفزيوني، فمن غير المنطقي أن ينشأ نقد مختص بالدراما التلفزيونية وهي مازالت في طور الانسلاخ عن السينما ولم تستقل بشكل نهائي، والجدير ذكره أن تسمية هذه القراءات النقدية بمصطلح «نقد درامي» وتسمية من يقوم بها بـ «ناقد درامي»، هي اصطلاحات ليست مغلوطة وحسب، بل انها تدل على معانٍ أخرى، فإن كلمة «درامي» والتي تعد من تصنيفات علم الجمال، لها علاقة بشكل رئيس بالمسرح وليس بالتلفزيون.
من يقرأ القراءات النقدية للمسلسلات؟؟
بعيد الفورة الإنتاجية في الدراما التلفزيونية السورية، ظهر العديد من المقالات في الصحف المحلية والعربية يحاكي هذا المنتج الإبداعي ويسلط الضوء على نقاط الضعف والقوة في هذا المسلسل وذاك، فصدور مسلسلات تمكنت من إثبات نفسها كحالة فنية، أوجب على الكثير ممن يعملون في الصحافة القيام بقراءات نقدية متماسكة تنقد العمل الدرامي التلفزيوني وتبرز النقاط التي جعلت من هذا المسلسل حالة فنية متكاملة حملت في طياتها الكثير من الجهود الإبداعية. فيما بعد، وبزيادة الإنتاج الدرامي التلفزيوني في سورية، وظهور مسلسلات غاية في الجودة من الناحية الفنية، وأخرى متوسطة، وغيرها رديء، ظهرت صحافة تخصصت في الدراما التلفزيونية من خلال مقالات تنقد العمل الدرامي التلفزيوني وتوجهه وتسلط الضوء على مواقع الضعف والقوة في المسلسلات السورية، ونذكر مثالاً على تلك الصحافة التخصصية «ملحق دراما» في جريدة تشرين، وصفحة «فنون» في جريدة الثورة، وغيرهما من الصفحات في الصحف السورية والعربية، وبالرغم من أن هذه المقالات لم تتعد كونها قراءات نقدية مكثفة، إلا أنها حملت خلال نصف عقد، رؤية نقدية ترادف المنتج التلفزيوني وتهدف إلى تطويره من خلال وجهة النظر النقدية، لكن الغريب في الأمر، أنه لم تقم تلك الحالة التبادلية بين الإبداع والنقد، بين القائمين على المنتج التلفزيوني من كتاب ومخرجين وممثلين...الخ، وبين الصحافيين والنقاد الذين ما انفكوا عن القيام بقراءات نقدية سعوا بها إلى تطوير الدراما التلفزيونية وإبعادها عن العثرات والأخطاء التي تساعد في تحييدها عن تحقيق ذاتها كشكل إبداعي مستقل. إذ نادراً، إن لم أقل مطلقاً، ما يلتفت صناع الدراما إلى هذه القراءات النقدية لأعمالهم، ومن ذلك أن النقاد ما إن صدر مسلسل «باب الحارة» في جزئه الثاني حتى بدؤوا يؤكدون على خطورة تكريس هذا النوع من الدراما التلفزيونية، لأنه لا يصور تاريخ دمشق الحقيقي، إضافة إلى أنه يسيء إلى التاريخ الدمشقي العريق من خلال العناصر المبتذلة التي احتواها، لكن النتيجة أتت معاكسة، إذ بدأت هذه المسلسلات بالزيادة والتفريخ إلى أجزاء متعددة، ولم يصغ القائمون على إنتاج مثل هذه الأعمال إلى ما قاله النقاد والصحفيون، حتى تكاد هذه المسلسلات أن تتحول إلى نوع من أنواع الدراما التلفزيونية السورية، والسبب في ذلك هو انصياع الكثير من الوسط الفني نحو المردود المادي الجيد لهذه المسلسلات التي تحظى بتسويق ممتاز.. ولم يقف الاستخفاف بهذه القراءات النقدية وعدم الالتفات لها عند هذا الحد، بل تعداه ليصل إلى عدم تمشي المنتج التلفزيوني باعتباره إبداعاً مع النقد الذي يوجه له، فمن الممكن أن تقرأ أكثر من مقال كتب قبل خمسة أعوام يركز على أهمية التوثيق التاريخي ودوره في إعطاء المصداقية للمسلسل التاريخي وجعله وثيقة تاريخية، في حين تجد في الموسم الماضي أكثر من ثلاثة أعمال لا تعتمد المصداقية ولا تقيم لها وزناً. أيضا، من نستطيع تسميتهم بالمبدعين في المسلسل، لا يلتفتون إلى ما يكتب عنهم في هذه المقالات، حيث نقرأ أكثر من مقال يتكلمون عن الأداء التهريجي لهذا الممثل والأداء المصطنع لذاك، والتكرار عند هذا المخرج وضعف السرد عند هذا الكاتب، لكن كمن يصدح في العراء، فلا الممثل يلتفت إلى النقاط التي أشار إليها الناقد، ولا المخرج يقيم وزناً للمقال، ولا الكاتب يهتم بما كتب عنه.
وما يزيد في الطنبور نغماً، أن أغلب هذه المقالات لا يقرؤها إلا النقاد ذاتهم، أما المعنيون بقراءتها فلا يلتفتون إليها، والدليل الأكبر على ذلك أنه نادراً ما ترى رداً على هذا المقال، أو إشارة لذاك، تصدر من المعني بالأمر، وهنا أعني الكتاب بشكل خاص، فإن كان الممثل لا يمتلك لغة تخوله للرد على الناقد، وإن كان المنتج لا يلتفت إلى هذه القراءات على اعتبار أن همه الأساسي هو الربح، فما الذي يمنع الكاتب، وهو الذي يمتلك لغة، من الرد إن كان يرى أن عمله كامل لا توجد فيه تلك النقاط المشار إليها في المقال؟؟ من المحتمل أن يسأل بعضهم عن جدوى الردود ولماذا أؤكد عليها؟! وهنا أقول: إن الردود التي أتمنى أن أراها في صحافتنا ليست المهاترات التي تتسارع في الظهور إن حمل أحد المقالات ذماً أو تقريعاً لشخص المبدع، بل أقصد الردود التي ارتقت بالكثير من الإبداعات في العالم، ما دامت الصحف ووسائل الإعلام تربة خصبة للحوار البناء بين الناقد والمبدع، والأمثلة على هذه الحالة البناءة كثيرة في الأدب وغيره من الفنون. وهنا لا أشمل جميع القائمين على الدراما التلفزيونية السورية، فهناك قلائل ممن يتابعون هذه القراءات ويتمشون معها ويسعون لتطوير منتجهم الإبداعي ودليل ذلك ظهور أعمال ذات مستوى رفيع فنياً.
أخيرا، إن عدم التفات القائمين على صناعة الدراما التلفزيونية السورية إلى القراءات النقدية التي تحاكي أعمالهم ومنتجاتهم، سيمنع قيام علاقة تبادلية بين الإبداع ممثلا بهذه المسلسلات، والنقد ممثلا بتلك القراءات النقدية، ويؤكد هذا الاستخفاف أن اللاعب الرئيس في الدراما التلفزيونية السورية هو العنصر المادي، وما ينتج عنه من محسوبيات وقتل لروح العمل الجماعي بوجود رأس المال الحاكم. وما بقي العنصر المادي هو العنصر الأساس ستبقى الدراما التلفزيونية السورية عاجزة عن إثبات نفسها كإبداع مستقل بذاته.