2013/05/29
محمد منصور - القدس العربي لو أردت أن اكتب مقالا نقدياً عن (باب الحارة) وهو يغلق مسيرة خمس سنوات من الحضور الرمضاني... فإنني لن أكتب سوى مرثية حزينة مشوبة بالكثير من الغضب على الحال التي انتهى إليها واحد من أشهر مسلسلات الدراما السورية على مر تاريخها الذي يقرب من نصف قرن؛ وفي وجداني تعيش أصداء الجزأين الأول والثاني اللذين حققا جماهيرية غير مسبوقة، وشكلا حالة مشاهدة هيستيرية في العالم العربي، دفع الصحافة العالمية قبل العربية، للبحث في سر ظاهرة هذا المسلسل الذي شغل العرب في الوطن والمغتربات، وانتشر بشخوصه وتقاليده وحكاياته انتشار النار في الهشيم، قبل أن تأتي هذه النار على العمل نفسه فتحرق أساساته وأركانه، ولا تبقي منه سوى هيكل عظمي مسكون بخراب درامي ملفق لا يسر عدواً أو صديقا! أما لماذا (هذا الغضب) فلأنني، مثلي مثل كثير من المشاهدين الذين أحبوا العمل، كنت أتمنى جزءاً بعد آخر أن ينهض العمل من كبوته التي بدأت في الجزء الثالث، يحدوني الأمل أن يأتي ما تلاه أفضل حالاً... أو أن يكون الجزء الخامس على أقل تقدير ختامه مسك أو فل أو ياسمين... عسانا ننسى الكبوات والعثرات، ونحتفظ بذكرى جميلة عن مسلسل شغل الكبار والصغار بحكاياته البسيطة، وقيمه النبيلة المستلهمة من عصر مضى... عصر نشعر بالحنين إليه زمانا ومكانا وعلاقات وتقاليد وطقوساً، فنرسمه بشكل أجمل على الشاشة مما كان في الواقع، ونغلفه بالحب والحكايا والحماس الطفولي لعنتريات العكيد، وسطوة الزعيم، وصخب الحارة، وحنان وقسوة الأب وهو يطبع حياة العائلة بصرامة حضوره، والأم وهي تملأ البيت بالألفة فتحنو في المصائب والملمات وتتوهج في الأفراح لتصنع شجن الحياة. لكن ما انتهى إليه (باب الحارة) في الجزء الخامس على الأخص، والذي كان أسوأ أجزاء المسلسل على الإطلاق، كان صدمة مريرة لا علاقة لها بالذكرى الختامية الجميلة التي كنا نأملها فإذا هي (أمل إبليس في الجنة)... وهذه الصدمة كان أهم صناعها بالدرجة الأولى السيد كمال مرة كاتب حلقات هذا الجزء، الذي قدم برأيي نصاً رديئاً بامتياز... من دون أن أعفي المخرج بسام الملا بأي حال من الأحوال، من قراءة هذا النص باعتباره (واضع الرؤية)، ثم الموافقة على أن يظهر بالشكل الذي ظهر عليه. لطالما دخلت في سجال عنيف مع الكثيرين فيما إذا كان ما يقدمه بسام الملا في (باب الحارة) هو صورة دمشق الحقيقية أم صورة ملفقة ومختلقة من ذاكرة منمطة تختزل دمشق في عناصر شكلية وفلكلورية لا علاقة لها بالواقع التاريخي الذي كان... وكنت أرى على الدوام أن بسام الملا يقدم (صورة عن دمشق) وليس (صورة دمشق كاملة) إنها صورة محكومة بعناصر الحكاية الشعبية، وبمعطيات البيئة الشعبية التي تحتضن مجريات الحكاية، وهي تمثل جزءاً أصيلاً من الواقع، وليس الواقع بكامل تشابكاته وغناه... لكنني أستطيع أن أقول الآن وبالفم الملآن: هذه ليست دمشق يا بسام الملا... وهذا ليس مشروعك الذي بدأته في (أيام شامية) ثم اكتشفت أنك قادر على أن تتبناه وتجدده وتستمر به، فرحت تسير على الحد الفاصل بين الواقع والحلم، وتتوهج معك دمشق وهي تعيش رحلة الحج الشامي في (الخوالي) ودرامية الحارة في (ليالي الصالحية) وأمثولة المجتمع الأهلي الذي يحكم الناس فيه أنفسهم بقيم مدنية وحضارية، كانت متقدمة حينها عن قيم كثير من مدن الشرق في الجزأين الأول والثاني من (باب الحارة) فدمشق ليست أبا ساطور وأبا طاحون وأبا شاكوش وأبا الطيب الذي ليس له من اسمه نصيب... وأبا (ضراب السخن) الذي لا ندري من أي خيال ضارب قد خرج، ليلتصق ببيئة صارت سمتها كثرة السماسرة والوشاة والمندسين والزعران والمحششين في دراما صار عنوانها 'خود وعطي'. لا نريد أن نرى دمشق النخبة والطبقة المثقفة وجدل السياسيين، فهذه قد يكون لها مقال آخر في مسلسل آخر لا يشبه (باب الحارة) لكن أين صورة دمشق الشعبية والمسلسل ما زال يدور في فلك ثلاثينيات القرن العشرين، أين دمشق التي أضربت لخمسين يوماً مطلع عام 1936 فكتب أحد كتابها يرسم صورة نابضة لذلك الإضراب قائلاً: (وما ظنك بشعب فقير، ينقطع فيه التاجر عن تجارته، والصانع عن صناعته، والأجير عن عمله، والطفل عن مدرسته، ثم يؤلفون جميعاً صفاً واحداً ينتزع حقه من أفواه البنادق ونوافذ الدبابات، ويسجل تضحيته بالدم ثم لا يشكو أحد ولا يتبرم، فالعالم فيه وطني، والجاهل وطني، والمرأة العجوز والطفل الصغير؛ كل أولئك قائم بواجب الوطن... كأنه درس الوطنية عشرة أعوام في أكبر الجامعات). وأين دمشق التي نظمت وهي تحت الانتداب والاحتلال في ربيع عام 1936 أول معرض من نوعه في البلاد العربية (معرض دمشق) التجاري والصناعي الذي اتخذ من مدرسة التجهيز مقراً له، ودعت الصحافة الوطنية معشر الشباب لزيارته لأنه (خير وسيلة لإنهاض اقتصاديات البلاد). هذه نتف من أحداث ومظاهر تعكس الروح الشعبية الناهضة لدمشق، ولا تخرج المسلسل عن مساره الذي كان يمكن أن يسير فيه، بعيداً عن هذا الخواء الدرامي المريع، الذي ينشغل بخلافات عصام مع زوجته ثم زيجته الثالثة في مشاهد تعتصر الكوميديا عصراً، ويصول مأمون بك ويجول وهو يشتري بيوت ودكاكين الحارة بأموال الفرنسيين، من دون أن ندرك إن كان هذا (إسقاط) على حركة شراء الأراضي في فلسطين من قبل اليهود... أم هو مجرد (حائط مسدود) ينطح به هذا النص العقيم رأسه، في ظل قلة حيلة الكاتب في بناء حكاية ذات حبكة درامية قوية تشد المشاهد، وتملأ فراغ غياب بعض شخصيات المسلسل الأساسية، ناهيك عن جهله بتاريخ دمشق، وعبثه بهذا التاريخ كما يحلو له... فرغم أن الفرنسيين شقوا بعض الشوارع الجديدة في دمشق، منها شارع بغداد عام 1925، كما نشأت في عهدهم أحياء جديدة مثل حي القصاع المسيحي، كما نظموا ساحة النجمة حيث كان دير الراهبات الفرنسيسكانيات أو مدرسة (الفرنسيسكان) اليوم إلا أنه لم يعرف أنهم أصدروا قراراً تنظيمياً يقضي بهدم حي في دمشق القديمة من أجل إقامة (سراي للحكومة). وربما كان يمكن أن نقبل بهذا اللعب بتاريخ المدينة على اعتبار أن هذه القصة (ملعوب) من السيد مأمون بك، لولا أن أهل الحارة قالوا في الحلقة الأخيرة إنه هو وراء قرار البلدية هذا... أي أكدوا صدور قرار بهذا الشأن! أجل... أرثي (باب الحارة) أرثي موت مسلسل كان يمكن أن يحيا في ذاكرتنا طويلاً، أرثي ممثلين بائسين ومضجرين فقدوا ألق الأداء، لم يبق متوهجاً فيهم سوى (أبا بدر) وأرثي لحارة (الضبع) التي فتنت العرب زمناً، ثم صارت فتنة الاضمحلال والاحتضار وهي ماثلة ببابها المخلوع على الشاشة! ندوات بيت فستق! بعد أن ظهر الممثلون طيلة شهر رمضان في عشرات المسلسلات، فقدموا ما لديهم، واجتهدوا ما طاب لهم الاجتهاد، وقالوا ما قالوه في مئات الحلقات الدرامية السارة والمحزنة، المقبولة والرديئة، الجدية والسخيفة... تابعوا ظهورهم في ندوات العيد، ندوات غيب فيها الرأي الآخر تماماً، وانبرى الممثلون والمخرجون في جو من الفرفشة والانبساط، ليقيّموا أنفسهم بأنفسهم، وليمنوا علينا بما بذلوه من جهود في مسلسلات، لم تنتجها جمعيات خيرية بالتأكيد، وإنما شركات إنتاج تدفع لهم أجورهم، فيقبض بعضهم الملايين، ويثري بعضهم الآخر من تمثيل إعلانات والتهريج في خيام رمضانية، في مهنة تعطي أكثر مما يُعطى للأطباء والمهندسين وعلماء الذرة! ونحن نقول (صحتين وهنا على قلوبكم) فهذا زمنكم... وهذه ليست قضيتنا وليس وجعنا، لأنه (يرزق من يشاء بغير حساب) لكن لا يحق لأحد أن يطالبنا بأن نسكت على قول رأينا في تلك الأعمال بحجة أنهم (بذلوا جهوداً) وإذا أرادوا لنا أن نقول (يعطيكم العافية) فسنقولها لبعض من أمتعونا، أو احترموا ذائقتنا... وسيقولها عنا للبعض الآخر من أعجب بفنهم الهابط ورأى فيه (جهداً يستحق التقدير)! في تلك الندوات ظهر أبو جانتي وأبو ليلى والقعقاع وسعد بن أبي وقاص وخالد بن الوليد... فضحكوا ملء أشداقهم، ومدحوا أنفسهم من دون أن يقول لهم أحد ما أحلى الكحل في عيونهم... وشنوا هجوماً على بعض الصحافيين الذين قالوا (رأياً ما) في أعمالهم، فصوروهم كسفاحين اغتالوا جهد مجموعة من التقاة والدعاة في حملة أياد بيضاء أو كفالة يتيم! تساءلت شكران مرتجى في ندوة (أبو جانتي) ببراءة: لماذا لا نصفق لبعض؟ أوليست أعمال الدراما السورية مثل صحون الفواكه التي أمامها في تنوع طعمها ونكهاتها... ونسيت أن في فصيلة الفواكه التي تشبهت بها، هناك ما هو (خربان) و(معفن). وقال أيمن رضا في الندوة ذاتها: (هل يوجد صحافي يدافع عن كرامة فنان إذا أهينت) متناسياً حالة التملق الذي يمارسها الفنانون بطيب خاطر لمخرج أو منتج أو مدير شركة أمي بما يتنافى مع أبسط أشكال الكرامة، والتي لو تحدث عنها الصحافي لخاصمه الفنانون بدل أن يشكروه! إنها ندوات يستفحل فيها الزيف، وتصدر ثقافة التباهي، ويغيب الرأي الآخر، وتصبح الشاشة مرآة بلهاء يرى فيها النجوم أنفسهم... ويدورون فيها حول أنفسهم! هل نصفق أم نفيق؟! لم تتقدم الدراما المصرية هذا العام لأن النقاد كانوا يشجعون الأعمال الرديئة التي كانت تنتج في الأعوام السابقة... ولأن الفنانين كانوا يفبركون ندوات تلفزيونية للتغني بانتصاراتهم... أذكر تماماً ما قاله الراحل أسامة أنور عكاشة قبل عامين في ندوة المسلسل السوري (أسمهان) الذي أعجب به... وكيف حمل بشدة على الدراما المصرية حينها... وأعتقد أنه ما نراه هذا العام هو ابن الروح الشجاعة في نقد الذات... فهل نصفق أم نفيق؟!