2012/07/04
جهاد أبو غياضة – تشرين
ليست المرة الأولى التي تتصدى فيها هوليوود لإعادة تقديم فيلم ذي جنسية أجنبية أصاب من النجاح والشهرة الشيء الكثير، وذلك عبر إعادة تبيئة القصة وظروفها لتناسب المجتمع الأمريكي، لكن الجديد في هذه التجربة هي إعادة تقديم السلسلة الأشهر أوروبياً وعالمياً «ثلاثية الألفية»، والتي تعد بحق درة السينما الأوروبية الروائية، وذلك من دون تدخل في النص الأصلي أو مكان الأحداث والأجواء الأوروبية. ليبصر الجزء الأول النور «الفتاة ذات وشم التنين» مبحراً بمقولاته عن المجتمع السويدي تاريخياً، وعابقاً بأجواء التشويق والإثارة التي تفوقت على روائع الأمريكيين «ستيفن كينغ» و«دان براون».
نبش الماضي القاتم
يأخذنا الفيلم عبر متواليات سردية حيث تفتح الحكاية على أخرى، وتبدأ القصة بالحكم بالسجن لثلاثة أشهر على الصحفي «ميكائيل كلومكفيست» الذي فضح في مقال له فساد الملياردير السويدي «هانز إيريك وينستروم»، وعلى إثرها يستقيل «ميكائيل» بعد الخضوع لقرار المحكمة، عقب رفض طلب الاستئناف في هذه القضية ويقرر الابتعاد عن الكتابة، لكنه يفاجأ باتصال غريب من شخص ألحّ عليه أن يأتي إلى منطقة تدعى «هيدبي»، وما إن وصل «ميكائيل» حتى وجد شخصاً كبيراً في السن من عائلة «فانغر» يطلبه للتحقيق في قضية اختفاء ابنة أخيه «هاريت فانغر» في عمر الـ18 ضمن ظروف غامضة والشائع أنها قتلت، وهذه القضية قد مر عليها فترة كبيرة من الزمن (حوالي 40 عاماً) في مقابل مبلغ كبير من المال إضافة لأدلة أخرى وفضائح مالية ضد خصمه «وينستروم».
وبذلك يوافق «ميكائيل» على البحث في تاريخ العائلة مدة سنة، وأثناء البحث في القضية عبر الإنترنت يفاجأ «ميكائيل» بشخص (هاكرز) يتجسس عليه من خلال الإنترنت، ويكتشف أنها فتاة في العشرينيات من عمرها تدعى «ليزابيث سالاندر»، تعمل مع الحكومة، وهي شخصية قاتمة مخيفة الشكل باللباس والحلي والوشوم (وشم التنين الذي على كتفها)، لكن ذلك يخفي كتلة من المشاعر المرهفة والحساسة، وهذه الفتاة تتجسس عليه بعد أن طلب منها عميد عائلة «فانغر» البحث في سيرة هذا الكاتب الصحفي، وبعد أن اكتشف «ميكائيل» مهارة «ليزابيث سالاندر» في البحث والتحقيق، يقرر أن يستدعيها للتعاون معها والتحقيق في القضية نفسها.
وأثناء التحقيق تظهر أحداث وملابسات من دفتر «هاربيت» الشخصي كتعلق الأرقام بمقاطع من الإنجيل، وتزداد القصة تعقيداً لتتحول للبحث في علاقة الجيل القديم لعائلة «فانغر» أي بين 5 أفراد كبار في السن من العائلة نفسها، وهم ممن كانوا ينتمون للنازية في حقبة الأربعينيات وهذه القضية هي قيد التحقيق، ومع تغير عمادة العائلة بعد نوبة قلبية وطلب العميد الجديد «مارتن» من «ميكائيل» بأن يتوقف عن بحثه في تاريخ الأسرة، تفتح القصة ليظهر فيها قاتل متسلسل يتم البحث عنه، ثم تدخل القصة في استعراض للتاريخ المظلم والفاسد أخلاقياً لتلك العائلة، خصوصاً بعد اكتشاف أن «هاريت» على قيد الحياة، ولكن تقادم القضايا يمنع من إعادة فتحها. وينتهي الفيلم بنهاية مفتوحة بعد انتقام «ميكائيل» من خصمه بمساعدة «ليزبيث».
قصة الفيلم مأخوذة عن الرواية الأولى التي تحمل اسم الفيلم نفسه من ثلاثية للمؤلف السويدي «ستيغ لارسن» التي عرفت باسم «ثلاثية الألفية»، وتتمحور الأحداث جميعها حول شخصية «ليزابيث سالاندر» بطلة الروايات الثلاث وهي قرصانة حاسب آلي مثيرة وغامضة وعاشقة للدخول في متاهات الحياة وجرائمها وكشف ألغازها وفسادها، وتضم روايات «الفتاة ذات وشم التنين» و«الفتاة التي ركلت عش الدبابير» و«الفتاة التي لعبت بالنار»، حيث صدرت جميعها بعد وفاة «ستيغ لارسن» عام 2004، وحققت نجاحاً عظيماً بداخل أوروبا وخارجها حيث بيع من الثلاثية ما يقرب من 28 مليون نسخة في حوالي 40 دولة، قبل أن يزداد انتشارها عالمياً بعد تحويلها عام 2009 لثلاثية سينمائية من إخراج المخرج السويدي «نيلز اردين اوبليف» نالت الكثير من التقدير، ما أدى إلى رغبة هوليوود في تقديمها فكان جزؤها الأول من نصيب السيناريست الكبير«ستيفين زاليان» الذي وضع سيناريو أفلام أوسكارية منها «لائحة شندلر- بنادق نيويورك» وأحدثها «كرة المال» حيث تبع نمط السرد لدى «لارسن» الذي يتميز بدقة الحبكة البوليسية، وحس الإثارة العالي، والترابط المنطقي المحكم للأحداث، وتميز السيناريو بالحوارات الآسرة والجمل البسيطة والواضحة، لذا رُشحت النسخة الأميركية من «الفتاة ذات وشم التنين» لجائزة أوسكار أفضل سيناريو مقتبس من عمل آخر.
كما كسبت هذه النسخة الهوليوودية من الفيلم توقيع المخرج المبدع «دايفيد فينشر» الذي تعودنا أن يدهشنا في كل مرة بجديد ومختلف عن أنماط واتجاهات أعماله السابقة « الغرب، نادي القتال، حالة بنجامين باتون الغريبة، الشبكة الاجتماعية» هو هنا يقدم فيلماً يعتمد على فك الرموز والألغاز والتعامل مع شخصيات مركبة ومتداخلة تبطن عكس ما تظهر، لكل منها أفكارها وحساباتها وأيضاً إشكالياتها، وقد عكست رؤيته الإخراجية ذلك بحرفية متناهية، حيث كل مشهد يورط المشاهد في حكاية ولغز جديد، ويزج به في دوامة التحليل والأسئلة، وباقتدار معهود بالإمساك بكل مفاصل العمل السينمائي من حركة الكاميرا وكوادرها وأجواء الفيلم القاتمة، إلى الموسيقا التصويرية التي أغنت الحدث وساهمت بحالة الإيهام للمشاهدين، والتي وضعها «ترينت ريزنور» و«أتيكوس روس» الحاصلين على جائزة الأوسكار عن موسيقا فيلم «الشبكة الاجتماعية»، كذلك بأداء الممثلين خصوصاً النجم القدير «دانييل كريج» الذي قدم أداء عميقاً لشخصية «ميكائيل»، والممثلة الشابة «روني مارا» التي فاجأت الجميع بأدائها الرائع لشخصية «ليزابيث» وحصلت على ترشيح لجائزة أفضل دور نسائي، كذلك العملاق السويدي «ستيلان سكارسجارد».
مفارقات إنتاجية
جذور القصة حقيقية وتعود للوقت الذي كان عمر لارسون مؤلف الرواية 15 عاما، وشاهد حينها جريمة اغتصاب جماعية لفتاة، ولم يسامح نفسه أبداً لأنه لم يتدخل لإنقاذ تلك الفتاة التي كان اسمها ليزابيث مثل البطلة الشابة في كتبه.
عرضت البطولة الذكورية في الفيلم على نجوم كبار منهم «جوني ديب، فيجو مورتنسن، براد بيت، جورج كلوني» لكن الجميع كان لديهم انشغالاتهم، وعندما عرض على النجم «دانيال كريغ» أن يلعب دور «ميكائيل» في الفيلم وافق مبدئياً، ثم عاد واعتذر بسبب تضارب مواعيد التصوير مع انشغالاته بالجزء الجديد من سلسلة «جيمس بوند» الذي يحمل اسم «Skyfall»، لكن الدور عاد له بالنهاية بعد حل تلك المشكلة، وبذلك عمل على اكتساب وزن زائد ليناسب الدور.
لكن البطولة النسائية في الفيلم كانت هي المشكلة التي واجهت صانعي الفيلم، حيث وجهت الدعوة بداية للنجمة السويدية « ناعومي رابيس » التي أدت الدور في النسخة السويدية، لكنها اعتذرت لرغبتها في لعب أدوار جديدة، ولانشغالها بالإعداد للجزء الجديد من فيلم «شارلوك هولمز- لعبة الظلال»، حيث عرض الدور على النجمة «ناتالي بورتمان» ولكنها رفضت بسبب الإرهاق، لينتقل العرض للممثلة الحسناء «سكارليت جوهانسون» التي لم يوافق عليها المخرج« ديفيد فينشر» كونها مثيرة للغاية. كذلك الحال بالنسبة للنجمة «جنيفر لورانس» لأنها كانت طويلة القامة جداً، وامتدت القائمة لتشمل العدد من الأسماء المهمة مثل «كيرا نايتلي، آن هاثاواي، إميلي براونينغ، إيفا جرين، إيما واتسون، ايفان راشيل وود، كاتي جارفيس» حتى استقر الدور في النهاية على الممثلة «روني مارا» التي شاهدناها سابقاً في دور خلاب بفيلم «الشبكة الاجتماعية» لتقدم أول بطولة مطلقة لها.
كما قامت «روني مارا» بوضع عدة ثقوب وحلي حقيقة تظهر في جسدها كالأنف والأذنين لكي تناسب الشخصية، حيث كانت الحلي من مجوهرات«ستيفن وبستر» الشهيرة والمميزة مثل سوار رأس الكبش، وخاتم الجمجمة المزدوجة، وخاتم الأشواك. وكانت كل التصريحات الصادرة من مسؤولين بداخل شركة سوني المنتجة للفيلم تؤكد على أن مصير إنتاج بقية الثلاثية متوقف على الاستقبال الذي سيلاقيه جزؤها الأول.
وبعد هذا النجاح، صارت الأنباء مؤكدة، عن أن السيناريست الأوسكاري « ستيفين زاليان» يقوم بكتابة الجزء الثاني من الرواية، لتنتجه الشركة بموافقة مبدئية من «روني مارا ودانييل كريج»، وهما بطلا الجزء الأول، على المشاركة به ولكن المفارقة هنا هي إمكانية أن يخرج هذا الجزء الثاني المخرج «ديفيد فينشر» أيضاً، وهو المشغول حالياً بمشروعه السينمائي الجديد الذي يتناول اقتباساً سينمائياً للفيلم الكلاسيكي «20 ألف فرسخ تحت سطح البحر»، وقد صرح مسبقاً بأنه لن يرغب في تقديم الثلاثية كلها في حال رغبت الشركة في إنتاجها.